رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
الثورة ما زالت متوهجة ولا يمكن احتواؤها أو الدفع بها نحو مسارات معاكسة
كان من الضرورة بمكان التحرك باتجاه ميدان التحرير وغيره من ميادين محافظات المحروسة يوم الجمعة الماضي لتوجيه عدة رسائل لكل من يهمه الأمر.
أولا: إن الثورة التي انبثقت في الخامس والعشرين من يناير المنصرم ما زالت متوهجة وليس ثمة إمكانية لإجهاضها أو احتوائها أو الدفع بها نحو مسارات تعاكس اتجاهها الصحيح الذي رسمه الثوار على مدى ثمانية عشر يوما من المكابدة والمجاهدة حتى تمكنوا من إسقاط رأس النظام ورموزه واحدا بعد الآخر في متوالية مدهشة.
ثانيا: إن الثورة ما زالت رقما مهما في المعادلة السياسية لا يمكن تجاوزه أو القفز عليه بحيث يمكن للعناصر المناهضة لها من محوها من خارطة الوطن وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء أي إلى ما قبل الحادي عشر من فبراير.
ثالثا: لا مجال على الإطلاق للانقسام بين الفصائل والقوى التي قامت الثورة على أكتافها حتى وإن تباينت منطلقاتها الفكرية والثقافية والذين راهنوا على هذا الانقسام الذي كادت نذره تعصف بالثورة وبالثوار بوسعهم الآن بعد الثامن من يوليو أن يناموا قريري العيون فقد ذهبت رياحه – أي الانقسام – إلى غير رجعة.
رابعا: لم يعد بمقدور القوى التي امتطت صهوة الثورة أن تقدم نفسها بحسبانها الموجهة الأوحد للأحداث أو التطورات وهو ما يستدعي منها أن تتعامل بمنطق الشريك بعيدا عن الهيمنة التي دفعت بعض الاتجاهات إلى التوجس من هذه القوى التي أظهرت في بعض خطابها نوعا من الاستعلاء على الواقع طرح مفاهيم تتناقض مع السياق الذي يحظى بالقبول أو الرضا العام.
خامسا: بات من الملح أن تتعدل السياسات التي انتهجتها النخبة الحاكمة الجديدة منذ أن تولت مقادير أمور الوطن بعد الحادي عشر من فبراير والتي أخذت منحى يخاصم في بعض مساراته ما سعت الثورة إلى تكريسه ولعل في صدارة ذلك الجوانب الاقتصادية وما يتعلق تحديدا بمبدأ العدالة الاجتماعية فالملاحظ أن جملة ما طبق من سياسات حكومية لم يتماس مع قواعد هذه العدالة التي ظلت وما زالت مرتكزا أٍساسيا في توجهات ثوار يناير بمختلف فئاتهم ولعل الموازنة العامة التي تم اعتمادها للعام المالي الجديد 2011 – 2012 وفق رؤية الكثير من الخبراء لا تعدو كونها مجرد إعادة إنتاج لموازنات وزير المالية السابق الهارب يوسف بطرس غالي وكذلك فيما يتعلق بالحد الأدنى من الأجور والذي جعلته الموازنة حوالي 700 جنيه مصري أي ما يزيد على مائة دولار بقليل بينما المطلوب حسب الخبراء أيضاً أن يكون 1200 جنيه مصري أي ما يزيد قليلا عن مائتي دولار وفي الآن ذاته فإن مؤشر البطالة لم ينخفض عما كان سائدا قبل الخامس والعشرين من يناير وهو ما يستوجب وضع آليات فعالة للخروج من مأزق البطالة الذي يؤرق الشباب خاصة الخريجين الجدد.
سادسا: الإسراع بوتيرة المحاكمات التي تجرى لرموز النظام السابق وفي مقدمتهم رأسه حسني مبارك والذي يبدو أن وقائع الأشهر الستة المنصرمة منذ قيام الثورة قد أوحت أن ثمة محاولة للتعتيم على هذه المحاكمات أو إجرائها وفق قواعد وآليات تنتهي إلى إصدار أحكام بالبراءة مثلما حدث مؤخرا لنفر من الوزراء السابقين فضلا عن إخلاء سبيل الضباط المتهمين بالقتل والاعتداء على المتظاهرين في محافظة السويس خلال الثورة وهو ما أدى إلى حالة من الاحتقان والتصادم بين أهالي الشهداء والمصابين مع قوات الأمن.
وثمة إشكالية تتجلى فيما يتصل بهذه المسألة فأي تدخل سواء من قبل المجلس العسكري أو مجلس الوزراء في السلطة القضائية لن يكون مقبولا لا سياسيا أو مهنيا فضلا عن توجيه رسالة خاطئة للخارج الذي يراقب كل تطورات الحالة المصرية وفي الآن ذاته فإن ما يبدو أنه بطء في إجراءات التقاضي مما يؤخر الفصل في الاتهامات الموجهة لرموز النظام السابق ينطوي على تجاهل لحالة الغليان الشعبي وهو ما أسهم في تنظيم جمعة الثورة أولا وإعلان الاعتصام في ميدان التحرير ومدن أخرى من قبل بعض ائتلافات الثوار وذلك يؤشر بوضوح إلى إبقاء جذوة الشارع في حالة اشتعال أو بالأحرى اشتباك ومن ثم فإن المطلوب هو الإسراع في الإجراءات وفق المحددات القانونية والدستورية التي تنحاز للعدالة على نحو واضح وشفاف.
سابعا: حان وقت التغيير في هيكلية النخبة الحاكمة الجديدة خاصة على صعيد الحكومة في ظل ما يبدو من عدم وضوح في رؤيتها وما يتردد عن عجزها عن الحزم فضلا عن العدل وهي المعادلة المطلوبة في الحكم وأظن أن حكومة الدكتور عصام شرف استنفدت رصيدها بعد أن فقدت الإسناد الشعبي الذي ظلت تعتمد عليه منذ تشكيلها والمجيء برئيسها من ميدان التحرير واللافت أن كثيرين راهنوا على أن شرف سيشارك في مظاهرات الجمعة الفائتة ليقدم كشف حساب فترة الأشهر الستة الماضية بل إن ثمة من توقع أن يقدم استقالته وهو ما لم يحدث بالطبع.
والأهم من ذلك فإن هناك حوالي 17 وزيرا في حكومة شرف كانوا أعضاء في لجنة السياسات بالحزب الوطني الحاكم سابقا والتي كان يرأسها جمال مبارك وذلك يلقي بظلال من الشك على مجمل سياسات الحكومة التي لم يتباين أداؤها كثيرا عن أداء حكومة نظيف في ظل استمرار نفس الآليات والقواعد التي كانت تطبقها، ولعل وزارة الداخلية هي الأكثر استحواذا على الغضب من قبل الثوار وبالذات بعد وقائع يومي 28 و29 يونيو الماضي في ميدان التحرير فرغم كل الملابسات التي أحاطت بهذه الوقائع فإنها أظهرت أن سياسات وزارة الداخلية لم تتغير في العمق وهو ما يرجعه الثوار إلى بقاء قيادات تدين بالولاء لوزير الداخلية السابق حبيب العادلي وللنظام السابق على رأس المواقع المفصلية بها تخطيطا وتدبيرا وتنفيذا وهو ما جعل المتظاهرين في ميدان التحرير وغيره من الميادين يطالبون بقوة بتطهير وزارة الداخلية ووصل الأمر إلى المطالبة بإقالة وزيرها الحالي منصور عيسوي.
تاسعا: لم يعد ثمة طريق آخر تنتهجه مصر سوى طريق الديمقراطية بمفهومها الصحيح الذي يعلي من شأن التعددية الحقيقية ويرفع من صوت الحرية لكل الشعب من دون إقصاء أو استئصال مثلما كان يحدث خلال الثلاثين عاما التي هيمن فيها نظام مبارك على مقدرات المحروسة ولكن ذلك يتطلب التوافق على القواعد الحاكمة لتطبيق هذه الديمقراطية وفي مقدمتها النصوص فوق الدستورية وذلك لإنهاء الجدل الذي ساد خلال الأشهر الفائتة حول الدستور أولا أو الانتخابات أولا وأظن أن يوم الجمعة الماضي حسم هذا الجدل لصالح الثورة أولا
ولاشك أن هذا التوافق يتطلب يقظة من مختلف القوى السياسية المنتمية للثورة بحيث لا تسمح للخلافات أن تقفز على المشروع الوطني المصري الذي تبلور في الخامس والعشرين من يناير لأن من شأن ذلك أن يدخل الجميع إلى منطقة الخطر ويتيح الفرصة للقوى المناهضة للثورة للعودة مجددا إلى المشهد السياسي وهي كما نعلم تتأهب لمثل هذه الخطوة مستغلة ما يبدو أنه غياب للأمن وللقانون.
السطر الأخير:
امتطيت صهوة عشقك
سافرت إلى تضاريسك
ارتميت على حدودك
عثرت فيك على فاتحة كتابي
وقدس الأقداس ينبع من عينيك
فاحتويني في مسافاتك
بثي أنهارك في قلبي المسكون بالمكابدة
أيتها الياقوتة والزبرجدة
ثقي أيتها المسافرة
أني مفعم بالعودة إلى حدائق الشعر فيك
إلى البحر يغازل نوارسه
والنرجس يصوغ ملامحه
من وجهك الزاخر بالنور
يمزجني أنا المتعب برحيق السوسن
فيطل على بهاء وسحر وعشق وحبور
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
4596
| 29 سبتمبر 2025
في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه، حركاته، وحتى ضحكاته المقتضبة لم تكن مجرد تفاصيل عابرة؛ بل كانت رسائل غير منطوقة تكشف عن قلق داخلي وتناقض صارخ بين ما يقوله وما يحاول إخفاءه. نظراته: قبل أن يبدأ حديثه، كانت عيونه تتجه نحو السلم، وكأنها تبحث عن شيء غير موجود. في لغة الجسد، النظرات المتكررة إلى الأرض أو الممرات تعكس قلقًا داخليًا وشعورًا بعدم الأمان. بدا وكأنه يراقب طريق الخروج أكثر مما يراقب الحضور، وكأن المنصة بالنسبة له فخّ، والسلم هو طوق النجاة. يداه: حين وقف أمام المنصة، شدّ يديه الاثنتين على جانبي البوديوم بشكل لافت إشارة إلى أن المتحدث يحتاج إلى شيء ملموس يستند إليه ليتجنب الارتباك، فالرجل الذي يقدّم نفسه دائمًا بصورة القوي الصلب، بدا كمن يتمسك بحاجز خشبي ليمنع ارتعاشة داخلية من الانكشاف. ضحكاته: استهل خطابه بإشارات إلى أحداث جانبية وبمحاولة لإضحاك الجمهور حيث بدا مفتعلًا ومشحونًا بالتوتر. كان الضحك أقرب إلى قناع يوضع على وجه مرتبك، قناع يحاول إخفاء ما لا يريد أن يظهر: الخوف من فقدان السيطرة، وربما الخوف من الأسئلة التي تطارده خارج القاعة أكثر مما يواجهه داخلها. عيناه ورأسه: خلال أجزاء من خطابه، حاول أن يُغلق عينيه لثوانٍ بينما يتحدث، ويميل رأسه قليلاً إلى الجانب ويعكس ذلك رغبة لا واعية في إبعاد ما يراه أو ما يقوله، وكأن المتحدث يحاول أن يتجنب مواجهة الحقيقة. أما مَيل الرأس، فكان إشارة إلى محاولة الاحتماء، أو البحث عن زاوية أكثر راحة نفسيًا وسط ارتباك داخلي. بدا وكأنه يتحدث إلى نفسه أكثر مما يخاطب العالم. مفرداته: استدعاؤه أمجاد الماضي، وتحدثه عن إخماد الحروب أعطى انطباعًا بأنه لا يتقن سوى لغة الحروب، سواء في إشعالها أو في إخمادها. رجل يحاول أن يتزين بإنجازات الحرب، في زمن يبحث فيه العالم عن من يصنع السلم. قناعه: لم يكن يتحدث بلسانه فقط؛ بل بجسده أيضًا حيث بدا وكأنه محاولة لإعادة ارتداء قناع «الرجل الواثق» لكن لغة جسده فضحته، كلها بدت وكأنها تقول: «الوضع ليس تحت السيطرة». القناع هنا لم يخفِ الحقيقة بل كشف هشاشته أكثر. مخاوفه: لعلها المخاوف من فقدان تأثيره الدولي، أو من محاكم الداخل التي تطارده، أو حتى من نظرات الحلفاء الذين اعتادوا سماع خطاباته النارية لكنهم اليوم يرون أمامهم رجلاً متردداً. لم نره أجبن من هذا الموقف، إذ بدا أنه في مواجهة نفسه أكثر من مواجهة الآخرين. في النهاية، ما قدّمه لم يكن خطابًا سياسيًا بقدر ما كان درسًا في لغة الجسد. الكلمات قد تخدع، لكن الجسد يفضح.
3399
| 29 سبتمبر 2025
بعض الجراح تُنسي غيرها، ليس بالضرورة أن تكون أعمق، لكن الوجدان لا يتحمل كل هذه الأوجاع. في الوقت الذي نقف في قلب الحسرة ونحن نطالع ذلك الجرح النازف في غزة دون أن نستطيع إيقاف نزفه، يتملكنا الشعور أحيانًا بأنها المأساة الوحيدة في أمتنا وذلك من فرط هولها وشدتها، ويسقط منا سهوًا الالتفات إلى مصائبها الأخرى، تأتي أزمة السودان في صدارة هذه المآسي. أوجاع السودان كثيرة ومتعددة، كلها بحاجة لأن تكون حاضرة دائما في الوجدان العربي الإسلامي، لكن أولاها في الوقت الراهن مأساة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، التي تخضع منذ العاشر من يونيو/حزيران 2024 لحصار خانق فرضته قوات الدعم السريع للضغط على الجيش الوطني السوداني. سكان مدينة الفاشر يفتك بهم الجوع والقصف المدفعي اليومي الذي يحول دون دخول المساعدات الإنسانية، في ظل ضعف التعاطي العربي مع القضية وتجاهل دولي تام لهذه المأساة، على الرغم من أنها تقترب من الإدراج في صفحات الإبادة الجماعية. قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) التي تحاصر الفاشر، تسيطر على أربع ولايات من أصل خمس ولايات في إقليم دارفور، لذا تقصف بوحشية مدينة الفاشر عاصمة الولاية الخامسة (شمال دارفور)، التي تمثل أكثر من نصف مساحة الإقليم وتعادل حوالي 12 بالمائة من مساحة السودان، وذلك بهدف إتمام السيطرة على الإقليم بأسره. إضافة إلى الوضع الكارثي للمدنيين في الفاشر بسبب الحصار والقصف الهمجي، ينذر سقوط الفاشر ووقوعها بقبضة ميلشيات الدعم السريع، بكارثة عظمى للسودان بشكل عام. الفاشر ليست مدينة عادية في أهميتها، فهي مفتاح السيطرة على مساحات إستراتيجية واسعة تصل إلى حدود تشاد وليبيا، وهي كذلك تقع على الطرق المؤدية بين شرق وغرب السودان، بما يعني أن سيطرة قوات الدعم عليها سيحول دون قيام دولة مركزية، وفرض واقع عسكري يتحكم في جغرافيا المنطقة، إضافة إلى أن السيطرة عليها ستؤمن لقوات الدعم ممرات تهريب الأسلحة. سيطرة قوات حميدتي على الفاشر يؤمن لها كذلك خطوط الإمداد ويقوي شوكتها ويجعل الولاية مركزا لمهاجمة الولايات الأخرى والسيطرة على المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش السوداني. لذا نستطيع الجزم، بأن الفاشر هي آخر الخطوط الفاصلة بين سودان موحد وسودان مجزأ، ولن يكون مجرد سقوط مدينة، بل انهيار وحدة الدولة السودانية، والذي سيتحول إلى شمال مركزي تحت سيطرة الجيش، وغرب تحت سلطة الميلشيات، وشرق تتجاذبه الانقسامات والنزعات القبلية، وجنوب منهك مهمش. إذا سقطت الفاشر، فإن الخطورة ستتجاوز حينئذ القتال بين الجيش وميليشيات الدعم، فمن أخطر تداعيات سقوط الفاشر – لا قدر الله - انفجار الصراع الإثني في السودان الذي يكتظ بالتنوع الإثني والقبائل المسلحة مختلفة الولاءات، لأن هذا البلد يرقد على بركان تسليح الهوية، وفي هذه الحال سيمتد الصراع الإثني بلا شك إلى الدول المجاورة. الدول العربية، والدول المحيطة بالسودان وعلى رأسها مصر، منوطة بالعمل الفوري الجاد على منع سقوط الفاشر والذي يعني تفتيت وحدة السودان وما له من تداعيات على الجوار، وذلك عبر مسارين، الأول هو كسر هذا الحصار على المدينة وإدخال المساعدات، والثاني تقدم الدعم العسكري واللوجستي للجيش السوداني المنهك لفرض سيطرته التامة على ولاية شمال دارفور ومنع سقوطها في أيدي حميدتي، والضغط كذلك على الدول والجهات التي تدعم ميلشيات الدعم السريع المتمردة. وعلى المستوى الشعبي، يتعين على نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي وضع مأساة الفاشر والملف السوداني بشكل عام في بؤرة الاهتمام، وتسليط الضوء على الأحوال الكارثية التي يعانيها أهل المدينة، وأهميتها الإستراتيجية وخطورة سقوطها في أيدي قوات الدعم على وحدة السودان، لتكوين رأي عام عربي ضاغط على الأنظمة والحكومات العربية لسرعة التدخل، إضافة إلى لفت أنظار الشعوب الغربية إلى هذه المأساة لإحراج حكوماتها والعمل على التدخل الفوري لإدخال المساعدات الإنسانية.
1365
| 28 سبتمبر 2025