رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لم يفاجئني قيام الحكومة القطرية بإيداع مذكرة رسمية لدى الأمانة العامة للجامعة العربية خلال الأسبوع المنصرم بشأن ترشيح عبدالرحمن بن حمد العطية عبر سفيرها النشط في القاهرة ومندوبها الدائم لدى الجامعة صالح عبدالله البوعينين ليس لأنني كنت على دراية بمثل هذا النبأ وإنما لأن العطية في حد ذاته يمتلك رصيدا شديد الإيجابية على مدى تسع سنوات أمضاها أمينا عاما لمجلس التعاون الخليجي نجح في تحويله إلى منظومة فاعلة وديناميكية وأضحت ذات تماس واضح مع المواطن الخليجي خاصة في مفردات حياته اليومية
وشخصيا كنت واحدا من المتابعين لمسيرة الرجل قبل أن يتبوأ هذا المنصب من خلال وجوده بوزارة الخارجية القطرية بدءا من عمله سفيرا في باريس وحتى وصوله إلى موقع وكيل الوزارة مرورا بتوليه مسؤولية إعداد قطر لاستضافة أول قمة لمنظمة المؤتمر الإسلامي وإشرافه على عدد من الملفات الخاصة التي حققت فيها الدوحة نجاحات دبلوماسية مشهود لها
وخلال هذه المسيرة التي امتدت إلى أكثر من عشرين عاما بالنسبة لي ِأشهد أن الرجل لم تتوقف حيويته عند حد فهو دائم التفكير ومبادر بوضع السياقات والآليات لتنفيذ أفكاره ومشروعاته الرامية إلى التطوير والتحديث وضخ الدماء الجديدة إلى حد المغامرة المحسوبة فضلا عن ذلك يمتلك القدرة على المتابعة بحيث تكون هناك استمرارية للأفكار والمشروعات التي تتقاطع دوما مع القضايا الكبرى وهو ما لمسته خلال وجوده على رأس منظومة مجلس التعاون الخليجي التي كنت معه محاورا بشأنها بشكل دءوب يصل في بعض الأحيان إلى مستوى الإزعاج وإن كان لم يظهر ذلك لي في الخارجية القطرية وفي مجلس التعاون الخليجي كان عنوانه العمل المتقن وبجودة عالية. لذلك فإن الفريق الذي يتعاون معه كان يعاني شدة الانضباط في المواعيد والسرعة في الأداء والمتابعة والإسراع في بلورة النتائج . ورغم ذلك فإن أحدا من أفراد هذا الفريق لم يكن يشكو لأن العطية كان يتعامل مع الجميع بمنطق الأخ الأكبر وليس رئيس العمل المستبد الذي بمقدوره فرض قراراته. كان يجيد توظيف مهارات كل شخص يعمل معه ويدرك المدى الذي يمكن من خلاله الوصول إليه. لذلك وفر أجواء من المحبة والتقدير المعنوي قبل المادي فوقع ما يمكن وصفه بالامتزاج بينه وبين فريقه فأخلصوا له وعملوا معه من منطق مغاير تماما ينهض على تقديم أقصى ما لديهم من وقت وجودة وإتقان والأهم من ذلك لم يتبع منهجية الشللية بل كان يستخدم المنهج العلمي القائم على الاستعانة دوما بأهل الخبرة وليس الثقة فأحاط نفسه بهم إضافة إلى قراءة الواقع على نحو عميق مما أهل قراراته لتكون منسجمة مع متطلبات هذا الواقع ولست هنا في معرض الإشارة إلى ما أنجزه على صعيد مجلس التعاون الخليجي من تحولات نوعية جعلته يغادر منطقة الأمن التي ظل مقيما فيها بمفردها لسنوات طويلة فتحرك إلى مناطق أخرى في مقدمتها الاقتصاد والتجارة عبر الاتحاد الجمركي والسوق الخليجية المشتركة والاتحاد النقدي والتي كانت قبل مجيئه إلى المجلس مجرد أحلام وربما شعارات يترقب الجميع مقاربتها واقعيا
وعلى المستوى السياسي فإن العطية كان أول أمين عام يتحدث عن الإصلاح السياسي بل إنه طرح لأول مرة في المنطقة فكرة المنابر السياسية خلال مداخلة له بمهرجان الدوحة الثقافي قبل سنوات صحيح وكانت حواراته الصحفية والتليفزيونية زاخرة بالآراء التي تعكس الرغبة في تطوير المنطقة سياسيا وإدخالها مواقع متقدمة من حيث التقدم الديمقراطي
وعلى المستوى الدولي العطية أول من أدخل فكرة الحوار مع المجموعات الدولية المناظرة لمجلس التعاون فضلا عن الدول المتقدمة إلى حيز التنفيذ بل أٍسهم في تقديم مجلس التعاون بتراثه الحضاري وتأُثيره السياسي والاقتصادي في عالم اليوم إلى العديد من الدول عبر ما أطلق عليه أيام مجلس التعاون والتي نظمت في عدة عواصم كان آخرها في شهر فبراير الماضي بسيول عاصمة كوريا الجنوبية
ويتمتع العطية بقدرة على صياغة علاقات تقوم على الاحترام المتبادل مع رجالات الإعلام والصحافة فأنت ترى في كل عاصمة عربية مجموعة من الأصدقاء وهو يقترب في هذا السياق ممن يحترمون ذواتهم ويبتعد عن هؤلاء النفر الذين يمكن أن يلمح فيهم سعيا لمصلحة خاصة وهو في الآن ذاته يدرك طبيعة الرسالة التي يريد توجيهها من هذا الصحفي أو ذاك وتلك ميزة نسبية فيمن يتبوأ منصبا مهما وهو ما جعله على تواصل مباشر مع الكثيرين من هؤلاء دون تعال منه أو إفراط كان يمسك بالكرة في ملعبه يقرر متى يقذف بها ولم يكن يرفض طلبا لحوار صحفي وهو ما خبرته معه على مدى السنوات العشرين المنصرمة بشرط أن يتيقن أن هذا الحوار سيحمل الجديد وكثيرا ما كنت أحصل منه شخصيا على جديد وسبق صفحي كان لـ" الشرق " نصيب منه " بعد التحاقي بها قبل نحو عام ونصف العام
وبوسعي الجزم أن العطية يمتلك حسا إنسانيا رفيع المستوى إن جاز لي هذا التعبير- فهو من ذلك النوع من المسؤولين الذين لم يصبهم غرور المنصب أو كيمياء السلطة فمن عرفه لن يجد كبير اختلاف في شخصيته سواء خلال فترة عمله سفيرا في عدد من العواصم العربية والدولية أو بعد توليه موقع الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي ظل هو العطية لم يقلب مائدة صداقاته. وإن كان قد ضاعف أعداد من يجلسون على مقاعدها. لم يتنكر للعاملين معه في مواقع مختلفة فضلا عن قدرته على الكشف عن الموهوبين وتصعيدهم في العمل معه ولعل نموذج محمد المالكي الذي كان مذيعا بإذاعة قطر فاختاره للعمل بمكتبه عندما كان وكيلا للخارجية والآن هو دبلوماسي متوهج بالوزارة تنقل في عدد من العواصم العربية والأجنبية
وفي زمن العطية تحول مقر الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي إلى خلية إنسانية بالمعنى الكامل للمفردة فليس ثمة قيود تحول المكان إلى ما يشبه الثكنة العسكرية كما كان يحدث في سنوات سابقة وإنما مكان مفتوح للفكر والحوار والعمل الدءوب في سياق يحرص على الإنجاز وكان هو أول من عمل على زيادة مرتبات العاملين بالأمانة ومنحهم ترقيات يستحقونها وفرصا للإبداع والتميز لم تتح لهم من قبل وأدخل لأول مرة المرأة لتكون ضمن السلك الوظيفي بعد أن كانت الأمانة العامة مغلقة على نون النسوة على نحو متعسف والأهم من ذلك هو أنه كان أول من فتح الباب أمام القضايا الإنسانية لتكون ضمن جدول منظومة مجلس التعاون الخليجي والذي كان يقتصر على القضايا السياسية والأمنية والاقتصادية كما أجرى لأول الحوارات الممنهجة حول دور وأداء مجلس التعاون عبر ندوات كان يشارك فيها مفكرون وإعلاميون من مختلف الاتجاهات بدول المجلس
وبعد فإن العطية يستحق في ضوء كل هذه المعطيات أن يكون أمينا عاما للجامعة العربية ولكن الأمر يتطلب حركة مبرمجة تعتمد على استراتيجية نشطة قادرة على قراءة واقع النظام الإقليمي العربي وتتمكن من اختراق محاذير عديدة وتسعى إلى تحقيق توافق عربي بشأنه
السطر الأخير:
لا تسافري
انهضي من سباتك
أعيديني إلى نهرك المحمل بالياقوت
كوني الصدى لعشق كاد يموت
بثي في شراييني رحيقك الأبدي
اقتربي من حقولي
أمطريني بدفئك الأسطوري
وقدس أقداس البراءة
أيا سر البهجة القديمة
تشتعل في الروح دونما خفوت
تأهيل ذوي الإعاقة مسؤولية مجتمع
لم يعد الحديث عن تأهيل ذوي الإعاقة مجرد شأن إنساني أو اجتماعي بحت، بل أصبح قضية تنموية شاملة... اقرأ المزيد
225
| 24 أكتوبر 2025
منْ ملأ ليله بالمزاح فلا ينتظر الصّباح
النّهضة هي مرحلة تحوّل فكري وثقافي كبير وتمتاز بالتّجدّد وتظهر دائما من خلال المشاريع الجديدة العملاقة المعتمدة على... اقرأ المزيد
813
| 24 أكتوبر 2025
لا تنتظر الآخرين لتحقيق النجاح
في حياتنا اليومية، نجد أنفسنا غالبا ما نعتمد على الآخرين لتحقيق النجاح والسعادة. نعتمد على أصدقائنا وعائلتنا وزملائنا... اقرأ المزيد
156
| 24 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6027
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3720
| 21 أكتوبر 2025