رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
من سنن الله في خلقه أنه كلما احتضر نظام ما تجدد الحديث عن الخيارات البديلة حتى لا تتوقف عجلة النمو فتتحول مصائب النظام السابق إلى فوائد للأنظمة البديلة وهو أمر على المستوى الاقتصادي شاهدناه حين سيطرت الأنظمة الاقتصادية المتمثلة في النظامين الرأسمالي والاشتراكي وبعد مرور سبعة عقود من تطبيق الاشتراكية كان سقوطها خلال هذه الفترة الوجيزة ومعاناتها من نقاط ضعف كثيرة دليلا على عدم قدرتها على التطبيق فكان ذلك بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة للرأسمالية حينها احتضرت الاشتراكية وبدأت الرأسمالية تدور في الفلك الاقتصادي العالمي منفردة متحصنة بسياسة العصا والجزرة والمتمثلة في: العصا (القوة العسكرية)، والجزرة (اقتصاد – سياسة – إعلام) وأساليب الاحتكار والعولمة ومنظمة التجارة العالمية كل ذلك بغية الديمومة وشيئا فشيئا بدأت الرأسمالية تتوسع وتزدهر وبوتيرة متسارعة وبالمقابل تتراجع نظم الاشتراكية وتتلاشى حتى بقيت بالكاد شبه معدومة أو أن الدول التي بقيت تدور في فلكها حولت أنظمتها بفعل الضغوط الاقتصادية إلى مزيج بين الاثنين وعلى ما يبدو فإنه لا يمنع حذر من قدر فمع وصول النشاط المالي العالمي إلى نحو 600 تريليون دولار لا يخضع منها لرقابة السلطات المصرفية والبنوك المركزية في العالم إلا 150 تريليون دولار فقط ؛ الأمر الذي وضع العالم أمام اقتصاد منفلت بصورة حادة خاصة في قطاع التمويل العقاري عن طريق الإقراض بلا ضوابط مما أدى إلى اندلاع الأزمة في هرم الرأسمالية وتفاقمها وتسربها لتشمل النظام الاقتصادي العالمي حينها بدأ الحديث عن الخيارات البديلة فكان اللافت للانتباه أن أزيد من 56 مؤسسة نقدية في أمريكا وأوروبا كانت هي الأقل تأثرا بالأزمة المالية إلى حد أن الأزمة لم تمسها بالأساس تعمل وفقا لنظام الصيرفة الإسلامية ومع تزايد حدة الأزمة وعدم نجاعة خطط الإنقاذ وظهور قوي على الساحة مثل الصين واليابان ودول في جنوب شرق آسيا وتجدد الحديث هنا وهناك عن عالم متعدد الأقطاب ازداد الحديث عن الاقتصاد الإسلامي نظرا لثبات خطواته وقدرته على النمو بسرعة مطردة ففي الوقت الذي تغوص دول الغرب داخل رواكد الرأسمالية لانتشال ما أمكن انتشاله جراء الإعصار المالي كان قطاع البنوك الإسلامية يعيش نموا سريعا بلغ معدله 15% سنويا على مستوى العالم، و20 % في بلدان منظمة المؤتمر الإسلامي في الفترة الأخيرة. والأغرب من ذلك أن حوالي 300 بنك إسلامي في العالم الآن تقدر أموالها بـ 700 مليار دولار. ومن المنتظر أن تصل قيمة أموالها إلى تريلون دولار في هذا العام 2013 م. مرد هذا إلى أن نقاط الضعف التي تسرب منها داء الأزمة وتفشت منها العدوى هي نقاط قوة بالنسبة للاقتصاد الإسلامي فكون النظام الرأسمالي يقوم على اليد الخفية الهادفة إلى الربح بأي وسيلة في المقام الأول كان الاقتصاد الإسلامي قد وضع لذلك ضوابط في السابق فالربا مثلا محرم بالنصوص القرآنية كما نهى الإسلام عن المتاجرة بالديون ووضع الفقه الإسلامي ضوابط لمن يريد الاستدانة وشيئا فشيئا شاع صيت الاقتصاد الإسلامي إلى درجة أنه يمكن أن يشكل مخرجا من الأزمة المالية فحسب توصيات لجنة الموازنة في مجلس الشيوخ الفرنسي ينبغي ضرورة الأخذ بنظام التمويل الإسلامي لتصويب أخطاء النظام المتبع ومع تزايد الحديث عن تجنب المنتجات المالية الإسلامية أساليب المضاربات وهو بالضبط ما يهدف إليه المشرعون في الحقبة الجديدة التي بدأنا بدخولها يزداد الحديث أيضا داخل مراكز القرار في الغرب عن مدى ثقة وقوة واستدامة النموذج المالي الإسلامي إلى درجة تلميح البعض أن المنتجات الإسلامية قد تقدم ملاذا آمنا في هذه المرحلة الحرجة الأمر الذي أهل النظام المالي الإسلامي إلى أن يصبح إحدى الوسائل للنظام المصرفي التقليدي بعد التداعيات التي عرفها النظام المالي العالمي إثر الأزمة المالية الأخيرة.
لم تكن إصابة الرأسمالية بقدر المستوى الذي كانت عليه الاشتراكية إبان تدهورها ولا نضج المنظومة الإسلامية حاليا بقدر نضج الرأسمالية أيام تدهور الاشتراكية ولم تكن النظرية الإسلامية بالمتقبلة في الغرب الرأسمالي الجريح حتى ولو كانت أوساط غربية عدة ألمحت إلى إمكانية إيجاد آليات لدمج صيغ المعاملات الإسلامية ضمن النظام المالي الرأسمالي المعمول به حالياً وإذا كان البعض يرى أن الفرصة الآن سانحةٌ أكثر من أي وقت مضى لكي يقدم الاقتصاد الإسلامي نفسه للعالم كله، ويقدم صورةً مثاليةً يراها الناس واضحةً خاليةً من كل هذه المشكلات التي خلَّفتها الأنظمة الاقتصادية المختلفة فعلينا ألا ننسى أيضا مدى قدرة الغرب على ليونة المواقف عند الحاجة وكراهيته للغير خصوصا ما يمت للإسلام بصلة في الرخاء. وعلى القائمين على العمل المصرفي الإسلامي حاليا التأمل أكثر من التقدم خطوات إلى الغرب فواثق الخطوة في ظل الأزمات يمشي حذرا أكثر منه ملكا والزج بالاستثمارات الإسلامية في مستنقعات الرأسمالية الملوثة سيعرضها للخطر بحكم الارتداد المتوقع للأزمة وبحكم قدرة المختبرات الغربية على الغربلة فتأخذ الثمرة المبتغاة وتحجب المعلومة التي أريد إرسالها عن المرسلة إليه وبالتالي فما ينبغي التركيز عليه حاليا بالدرجة الأولى هو العالم الإسلامي فلو قارنا بين عدد المسلمين المتعاملين بالبنوك التقليدية والإسلامية لوجدنا الفارق مازال شاسعا لا لشيء سوى أن الدعاية الإعلامية للمصارف الإسلامية موجهة إلى الغرب أكثر منها إلى 1.3 مليار نسمة من المسلمين الأمر الذي يجعل الضالة التي ننشدها ربما تكون قد بقيت خلفنا. وبالدرجة الثانية فالتوجه للأسواق الناشئة في هذه الظرفية أيضا قد يكون أفضل في المستقبل فثمة خارطة اقتصادية جديدة قيد التشكل قد تكون للأسواق الناشئة فيها موطئ قدم وثمة مستقبل غامض يلف حول الاقتصادات الغربية الأمر الذي قد يؤدي إلى هرب حتى رأس المال الغربي بغية الاستقرار وبالتالي فترجل الاقتصاد الإسلامي إلى الأسواق الناشئة قد يضعه على أرضية صلبة تمكنه من الولوج في المستقبل إلى أسواق الغرب بقوة التجربة والمنافسة مما يعزز حصوله على نتائج مضمونة في المستقبل أكثر منها في الوقت الراهن.
تأهيل ذوي الإعاقة مسؤولية مجتمع
لم يعد الحديث عن تأهيل ذوي الإعاقة مجرد شأن إنساني أو اجتماعي بحت، بل أصبح قضية تنموية شاملة... اقرأ المزيد
201
| 24 أكتوبر 2025
منْ ملأ ليله بالمزاح فلا ينتظر الصّباح
النّهضة هي مرحلة تحوّل فكري وثقافي كبير وتمتاز بالتّجدّد وتظهر دائما من خلال المشاريع الجديدة العملاقة المعتمدة على... اقرأ المزيد
669
| 24 أكتوبر 2025
لا تنتظر الآخرين لتحقيق النجاح
في حياتنا اليومية، نجد أنفسنا غالبا ما نعتمد على الآخرين لتحقيق النجاح والسعادة. نعتمد على أصدقائنا وعائلتنا وزملائنا... اقرأ المزيد
108
| 24 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
4461
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3699
| 21 أكتوبر 2025