رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
فخامة الرئيس / جورج بوش المحترم
رئيس الولايات المتحدة الأمريكية
تحية طيبة وبعد
يطيب لي في البداية أن أرحب بك في قطر. بلد الإسلام والسلام.. أرض المحبة والإكرام. فزيارتك إلى قطر حدث قل أن يتكرر، لذا أجدها فرصة لأعبر لك في رسالة مفتوحة عما يجيش في صدري تجاه أمريكا وسياستها. لا أدعي أنني مرآة تعكس الرأي العام هنا، ولكنني فرد من أمة أعتقد أنها تشاركني الشعور نفسه.
لدينا مقولة عربية تقول: "صديقك من صدَقَك وليس من صدَّقك" وبمعنى آخر صديقك من أخبرك بالحقيقة وليس من وافقك على كلامك. ومن هذا المنطلق سيكون حديثنا معك.
فخامة الرئيس ...
عندما وقعت الهجمات الإرهابية ضد أمريكا في 11/9 وما سببته من سقوط لضحايا أبرياء بادرت الدول العربية والإسلامية والعالم إلى شجب وإدانة ما حدث. فالعنف وقتل الأبرياء لاتقرهما الشرائع السماوية ولا العقول. والعنف لايولد إلاّ عنفا مضادا. والإسلام أجلَّ النفس البشرية وحرَّم إزهاقها. فقد قال الله سبحانه وتعالى في قرآنه أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا. ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (والله لحرمة المسلم عند الله أعظم من حرمة الكعبة). وحتى في وقت الحرب كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي جيشه بألا يقتلوا شيخا ولا امرأة ولا طفلا ولايقتلعوا شجرة ولايتعرضوا لمن اعتصم في صومعته من رجال الدين النصارى واليهود. فهل يعقل فيمن يعتقد هذا الاعتقاد أن ينشر الرعب والدمار ويقتل الأبرياء هنا وهناك؟ وهل يستقيم مع هذا منطق من يدعي أن الإسلام دين الإرهاب؟!!
نعم نُقِر أن لدينا فئة متطرفة لا نراها إلاّ أنها أخطأت المعتقد والطريق. وقامت بأعمال لايقرها ديننا الحنيف. وقد تمت إدانتها ومحاربتها على كافة الأصعدة والمستويات. ولكن لنقر أيضا بأن لديكم فئة متطرفة استبدت بقوة أمريكا وبنفوذها داخل الإدارة الأمريكية واستغلت ردة فعل أمريكا وحربها ضد الإرهاب لتحولها إلى ما يشبه الحرب ضد كل ما هو إسلامي. وشعر المسلمون بعد الحادي عشر من سبتمبر بأنهم أُخذوا جميعا بجريرة أولئك الذين فجروا أنفسهم في برجي مركز التجارة العالمية. وتحول أكثر من مليار مسلم وخصوصا 200 مليون عربي إلى متهمين مدانين. وانقلب مبدأ المتهم بريء حتى تثبت إدانته إلى "العربي المسلم مدان حتى تثبت براءته".
فخامة الرئيس ...
لا شك أن أحداث 9/11 الإرهابية وما تبعها من إفرازات عالمية أثارت الكثير من التساؤلات التي حيرت عقولنا وأبرزت تناقضات صارخة في المبادئ والمعتقدات التي تنادي بها أمريكا في المحافل العالمية. فأسس الكرامة والعدالة والحقوق الانسانية أصبحت تُنحر علنا في وضح النهار، وأصبح الكيل بمكيالين الطابع السائد للسياسة الأمريكية.
فهي تطالب بتطبيق معاهدة جنيف على أسراها في حرب العراق، وتتحجج بحجج واهية لتتجنب تطبيق نفس المعاهدة على أسرى حرب أفغانستان في غوانتانامو. تدين جرائم الحرب وتدعو إلى محاكمة مرتكبيها في كل مكان. ولكن تسكت سكوت الموتى عندما يتعلق الأمر بجرائم الحرب التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي يوميا ضد الفلسطينيين والتى أدانتها الأمم المتحدة ووصفت المأساة الفلسطينية في جنين بأنها "جريمة حرب".
أين العدالة الأمريكية في مناداتها بالحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل في الكثير من دول العالم، ونراها تغض البصر عن ترسانة الأسلحة الذرية الإسرائيلية. أين العدالة الأمريكية في إدانتها وشجبها بشدة للعمليات الانتحارية الفلسطينية، في حين أنها تلتزم الصمت إزاء المجازر الإسرائيلية اليومية في الأراضي الفلسطينية. وحتى لو تمخضت الإدارة الأمريكية عن إدانة، أتت تلك الإدانة على استحياء لتشمل القاتل والمقتول ومن حملوا الجنازة.
فخامة الرئيس ...
لابد من الإقرار بأن إرهاب المنظمات - التي تسعى إلى قتل وترويع الآمنين - الذي ندين جميعا أساليبه ومبرراته لايمكن مساواته مع أعمال المقاومة المشروعة ضد مغتصب يصر بالقوة على استعباد شعب كامل . ومن يشاهد ويعايش نصف قرن من الظلم والعنف والتقتيل الإسرائيلي في حق الشعب الفلسطيني مصحوبا بتخاذل دولي لعبت فيه أمريكا دورا رئيسيا في الدفاع عن إسرائيل واحتلالها للأراضي الفلسطينية ورفضها الانصياع للقرارات الشرعية الدولية التي تكسرت بفعل 96 فيتو أمريكي في مجلس الأمن، يصبح مدفوعا باليأس لفعل أي شىء. فالاعتداءات الإسرائيلية المزمنة يتمت الأبناء وسجنت الآباء وسدت أبواب الرزق أمام شعب بأسره، فحولت حياته إلى جحيم دائم وضغط ولّد انفجارا متوقعا.
وسأقولها أيضا قبل أن تتبادر إلى ذهنك أن القتل والسفك في دماء المدنيين الإسرائيليين مرفوضان أيضا. وما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه إلا من جراء التمادي في إجحاف حق شعب أبى إلاّ أن يعيش حرا كريما. فكانت الانتفاضة التي بدأت بحجارة الأطفال وهي أبسط أنواع الاحتجاج ضد الظلم والقهر، فقابلها الجيش الإسرائيلي بالرصاص وسفك الدماء. فكانت النتيجة عنفا ولد عنفا مضادا، فكان ما كان.
فخامة الرئيس ...
مثل ما أنكم تألمون لمقتل مواطن أمريكي لأي سبب، يألم المسلمون لمقتل أخوة لهم في فلسطين وفي كثير من الأحيان بدون سبب. وإذا كنتم تألمون لمشاهد الدمار التي سببتها وتسببها التفجيرات الإرهابية، فإن المسلمين يألمون لمشاهد الدمار اليومي للجرافات الإسرائيلية التي تدك منازل الفلسطينيين.
فخامة الرئيس ...
إن أمريكا بحكم قوتها ومكانتها ونفوذها أصبحت تقرر وتؤثر بشكل أو بآخر في مجريات الأمور وأحداث العالم. فإذا كان سعيها في القضاء على الإرهاب فليكن سعيها مرادفا للقضاء على مسبباته. لقد كادت الإدارة الأمريكية السابقة أن تنجح في تحقيق خطوة أولى نحو السلام تمثلت في اتفاقات أوسلو. وقد جنح العرب للسلام عبر العديد من المبادرات حرصا على استقرار المنطقة ورغبة في إحلال سلام عادل وشامل. فماذا كانت النتيجة؟ لقد مزق شارون حال توليه السلطة اتفاقيات أوسلو وذبح المبادرات العربية للسلام ذبح النعاج، وكان سعيه للحرب موازيا لسعي العرب نحو السلام. وكانت مكافأته أن أغدقت عليه الإدارة الأمريكية مليارات الدولارات ولقّبته بـ "رجل السلام"!!!
فخامة الرئيس ...
تذكر أن "خريطة الطريق" التي تروج لها الإدارة الأمريكية الآن هي محك لمدى جدية إرادة الإدارة الأمريكية في إقرار السلام المنشود وإنشاء الدولة الفلسطينية، ومؤشر لمستوى الثقة التي ستكتسبها سياستها حول العالم في ترجمة أقوالها إلى أفعال.
وتذكر أن السلام لن يكون في فرض الأمر الواقع بمنطق القوة ولي أذرع الأطراف الضعيفة لتوقيع اتفاقيات هشة أو في الاستجابة للتعديلات الإسرائيلية التي ستطيح بخريطة الطريق عن مسارها وتفرغها من مضمونها.
وتذكر أيضا أن السلام المنشود سيكون أبقى وأثبت على أرض الواقع إذا كان أساسه العدل والحق.
فخامة الرئيس ...
لقد سجل التاريخ أن عظمة القادة والزعماء لاتقاس بحجم دولهم أو قوتهم، ولكن تقاس بعظمة إنجازاتهم ومساهماتهم الإنسانية والأخلاقية. فالتاريخ الذي خلد القلة من عظماء القادة، طوى صفحاته عن الكثير منهم. وقد مر على رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية 43 رئيساً، لايتذكر العالم منهم إلا بعدد أصابع اليد الواحدة.
ولا اعتقد ان ظروفا ًملائمة ومواتية ستهب على المنطقة أفضل من الحالية. فالإدراك الواضح من قبل إدارتكم لحق الفلسطينيين في إنشاء دولة مستقلة يعتبر خطوة رئيسية وركيزة أساسية نحو تحقيق سلام شامل ينهي صراعاً دام اكثر من 50 سنة. وسيتطلب اغتنام الفرصة "إرادة وقيادة" تحول الأحلام والتطلعات إلى واقع ملموس. والإرادة هنا تعني فهما منصفا لخلفية الصراع وقدرا كبيرا من الشجاعة للوقوف مع الحق في مواجهة الضغوط المتوقعة من قبل إسرائيل وأنصارها في الإدارة الأمريكية. وإذا أخطأت "خريطة الطريق" وجهتها فلن يكون ذلك بإرادة انتحاري قرر أن يفجر نفسه، بل نتيجة لتقاعس الإدارة الأمريكية في كسر العناد الإسرائيلي الذي سيبحث عن أي حجة ليتملص من التزامات السلام.
ولك وحدك أن تقرر فشل أو نجاح عملية السلام. وللتاريخ وحده أن يقرر في أي زاوية من زواياه سيكتب اسمك.
ختاماً أشكر لكم سعة صدركم، مع تمنياتنا لكم بإقامة طيبة.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في عالم اليوم المتسارع، أصبحت المعرفة المالية ليست مجرد مهارة إضافية، بل ضرورة تمس حياة كل فرد وإذا كان العالم بأسره يتجه نحو تنويع اقتصادي يخفف من الاعتماد على مصدر واحد للدخل، فإن قطر – بما تمتلكه من رؤية استراتيجية – تدرك أن الاستدامة الاقتصادية تبدأ من المدارس القطرية ومن وعي الطلاب القطريين. هنا، يتحول التعليم من أداة محلية إلى بوابة عالمية، ويصبح الوعي المالي وسيلة لإلغاء الحدود الفكرية وبناء أجيال قادرة على محاكاة العالم لا الاكتفاء بالمحلية. التعليم المالي كاستثمار في الاستدامة الاقتصادية القطرية: عندما يتعلم الطالب القطري إدارة أمواله، فهو لا يضمن استقراره الشخصي فقط، بل يساهم في تعزيز الاقتصاد الوطني. فالوعي المالي يساهم في تقليل الديون وزيادة الادخار والاستثمار. لذا فإن إدماج هذا التعليم يجعل من الطالب القطري مواطنا عالمي التفكير، مشاركا في الاقتصاد العالمي وقادرا على دعم قطر لتنويع الاقتصاد. كيف يمكن دمج الثقافة المالية في المناهج القطرية؟ لكي لا يبقى الوعي المالي مجرد شعار، يجب أن يكون إدماجه في التعليم واقعًا ملموسًا ومحاكيًا للعالمية ومن المقترحات: للمدارس القطرية: • حصص مبسطة تدرّب الطلاب على إدارة المصروف الشخصي والميزانية الصغيرة. • محاكاة «المتجر الافتراضي القطري» أو «المحفظة الاستثمارية المدرسية». للجامعات القطرية: • مقررات إلزامية في «الإدارة المالية الشخصية» و»مبادئ الاستثمار». • منصات محاكاة للتداول بالأسهم والعملات الافتراضية، تجعل الطالب يعيش تجربة عالمية من داخل قاعة قطرية. • مسابقات ريادة الأعمال التي تدمج بين الفكر الاقتصادي والابتكار، وتبني «وعيًا قطريًا عالميًا» في آن واحد. من التجارب الدولية الملهمة: - تجربة الولايات المتحدة الأمريكية: تطبيق إلزامي للتعليم المالي في بعض الولايات أدى إلى انخفاض الديون الطلابية بنسبة 15%. تجربة سنغافورة: دمجت الوعي المالي منذ الابتدائية عبر مناهج عملية تحاكي الأسواق المصغرة - تجربة المملكة المتحدة: إدراج التربية المالية إلزاميًا في الثانوية منذ 2014، ورفع مستوى إدارة الميزانيات الشخصية للطلاب بنسبة 60%. تجربة استراليا من خلال مبادرة (MONEY SMART) حسنت وعي الطلاب المالي بنسبة 35%. هذه النماذج تبيّن أن قطر قادرة على أن تكون رائدة عربيًا إذا نقلت التجارب العالمية إلى المدارس القطرية وصياغتها بما يناسب الوعي القطري المرتبط بهوية عالمية. ختاما.. المعرفة المالية في المناهج القطرية ليست مجرد خطوة تعليمية، بل خيار استراتيجي يفتح أبواب الاستدامة الاقتصادية ويصنع وعيًا مجتمعيًا يتجاوز حدود الجغرافيا، قطر اليوم تملك فرصة لتقود المنطقة في هذا المجال عبر تعليم مالي حديث، يحاكي التجارب العالمية، ويجعل من الطالب القطري أنموذجًا لمواطن عالمي التفكير، محلي الجذور، عالمي الأفق فالعالمية تبدأ من إلغاء الحدود الفكرية، ومن إدراك أن التعليم ليس فقط للحاضر، بل لصناعة مستقبل اقتصادي مستدام.
2259
| 22 سبتمبر 2025
في قاعة الأمم المتحدة كان خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حفظه الله مشهدا سياسيا قلب المعادلات، الكلمة التي ألقاها سموه لم تكن خطابًا بروتوكوليًا يضاف إلى أرشيف الأمم المتحدة المكدّس، بل كانت كمن يفتح نافذة في قاعة خانقة. قطر لم تطرح نفسها كقوة تبحث عن مكان على الخريطة؛ بل كصوت يذكّر العالم أن الصِغَر في المساحة لا يعني الصِغَر في التأثير. في لحظة، تحوّل المنبر الأممي من مجرد منصة للوعود المكررة والخطابات المعلبة إلى ساحة مواجهة ناعمة: كلمات صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وضعتهم في قفص الاتهام دون أن تمنحهم شرف ذكر أسمائهم. يزورون بلادنا ويخططون لقصفها، يفاوضون وفودًا ويخططون لاغتيال أعضائها.. اللغة العربية تعرف قوة الضمير، خصوصًا الضمير المستتر الذي لا يُذكر لفظًا لكنه يُفهم معنى. في خطاب الأمير الضمير هنا مستتر كالذي يختبئ خلف الأحداث، يحرّكها في الخفاء، لكنه لا يجرؤ على الظهور علنًا. استخدام هذا الأسلوب لم يكن محض صدفة لغوية، بل ذكاء سياسي وبلاغي رفيع ؛ إذ جعل كل مستمع يربط الجملة مباشرة بالفاعل الحقيقي في ذهنه من دون أن يحتاج إلى تسميته. ذكاء سياسي ولغوي في آن واحد».... هذا الاستخدام ليس صدفة لغوية، بل استراتيجية بلاغية. في الخطاب السياسي، التسمية المباشرة قد تفتح باب الردّ والجدل، بينما ضمير الغائب يُربك الخصم أكثر لأنه يجعله يتساءل: هل يقصدني وحدي؟ أم يقصد غيري معي؟ إنّه كالسهم الذي ينطلق في القاعة فيصيب أكثر من صدر. محكمة علنية بلا أسماء: لقد حول الأمير خطابًا قصيرًا إلى محكمة علنية بلا أسماء، لكنها محكمة يعرف الجميع من هم المتهمون فيها. وهنا تتجلى العبارة الأبلغ، أن الضمير المستتر في النص كان أبلغ حضورًا من أي تصريح مباشر. العالم في مرآة قطر: في النهاية، لم يكن ضمير المستتر في خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله - مجرد أداة لغوية؛ بل كان سلاحًا سياسيًا صامتًا، أشد وقعًا من الضجيج. لقد أجبر العالم على أن يرى نفسه في مرآة قطر. وما بين الغياب والحضور، تجلت الحقيقة أن القيمة تُقاس بجرأة الموقف لا باتساع الأرض، وأن الكلمة حين تُصاغ بذكاء قادرة على أن تهز أركان السياسات الدولية كما تعجز عنها جيوش كاملة. فالمخاطَب يكتشف أن المرآة وُضعت أمامه من دون أن يُذكر اسمه. تلك هي براعة السياسة: أن تُدين خصمك من دون أن تمنحه شرف الذكر.
2052
| 25 سبتمبر 2025
يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن نفسه بوضوح. تمرّ في زقاق العمر فتجده واقفًا، يحمل على كتفه صندوقًا ثقيلًا ويعرض بضاعة لا تشبه أي سوق عرفته من قبل. لا يصرخ مثل الباعة العاديين ولا يمد يده نحوك، لكنه يعرف أنك لن تستطيع مقاومته. في طفولتك كان يأتيك خفيفًا، كأنه يوزّع الهدايا مجانًا. يمد يده فتتساقط منها ضحكات بريئة وخطوات صغيرة ودهشة أول مرة ترى المطر. لم تكن تسأله عن السعر، لأنك لم تكن تفهم معنى الثمن. وحين كبُرت، صار أكثر استعجالًا. يقف للحظة عابرة ويفتح صندوقه فتلمع أمامك بضاعة براقة: أحلام متوهجة وصداقات جديدة وطرق كثيرة لا تنتهي. يغمرك بالخيارات حتى تنشغل بجمعها، ولا تنتبه أنه اختفى قبل أن تسأله: كم ستدوم؟ بعد ذلك، يعود إليك بهدوء، كأنه شيخ حكيم يعرف سرّك. يعرض ما لم يخطر لك أن يُباع: خسارات ودروس وحنين. يضع أمامك مرآة صغيرة، تكتشف فيها وجهًا أنهكته الأيام. عندها تدرك أن كل ما أخذته منه في السابق لم يكن بلا مقابل، وأنك دفعت ثمنه من روحك دون أن تدري. والأدهى من ذلك، أنه لا يقبل الاسترجاع. لا تستطيع أن تعيد له طفولتك ولا أن تسترد شغفك الأول. كل ما تملكه منه يصبح ملكك إلى الأبد، حتى الندم. الغريب أنه لا يظلم أحدًا. يقف عند أبواب الجميع ويعرض بضاعته نفسها على كل العابرين. لكننا نحن من نتفاوت: واحد يشتري بتهور وآخر يضيّع اللحظة في التفكير وثالث يتجاهله فيفاجأ أن السوق قد انفض. وفي النهاية، يطوي بضاعته ويمضي كما جاء، بلا وداع وبلا عودة. يتركك تتفقد ما اشتريته منه طوال الطريق، ضحكة عبرت سريعًا وحبًا ترك ندبة وحنينًا يثقل صدرك وحكاية لم تكتمل. تمشي في أثره، تفتش بين الزوايا عن أثر قدميه، لكنك لا تجد سوى تقاويم تتساقط كالأوراق اليابسة، وساعات صامتة تذكرك بأن البائع الذي غادرك لا يعود أبدًا، تمسح العرق عن جبينك وتدرك متأخرًا أنك لم تكن تتعامل مع بائع عادي، بل مع الزمن نفسه وهو يتجول في حياتك ويبيعك أيامك قطعةً قطعة حتى لا يتبقى في صندوقه سوى النهاية.
1557
| 26 سبتمبر 2025