رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
- قد تكون الحصانة البرلمانية حصانة موضوعية
- وقد تكون الحصانة البرلمانية حصانة إجرائية
فإذا كانت الحصانة موضوعية بمعنى أنها تمنع المسؤولية.
أما إذا كانت الحصانة إجرائية بمعنى أنها تحمي النائب (عضو مجلس الشورى) من الإجراءات الجنائية التعسفية التي قد تلجأ إليها السلطة التنفيذية كحماية للعضو من الكيد له.
أولاً: الحصانة الموضوعية لعضو مجلس الشورى:
هذه الحصانة نصت عليها المادة (١١٢) من الدستور القطري بأن
" لا تجوز مؤاخذة عضو المجلس عما يبديه أمام المجلس أو لجانه من آراء أو أقوال بالنسبة للأمور الداخلة في اختصاص المجلس"
بالطبع إن هذه المادة من الدستور القطري تؤكد مجموعة المبادئ التي استقرت في التقاليد البرلمانية في بعض الدول الأوروبية.
حيث ترى هذه التقاليد أن النائب أو عضو مجلس الشورى يستحيل عليه بدون هذه الحصانة أن يشعر بالطمأنينة أو أداء عمله بحرية وراحة، لذلك.. فإن أعضاء مجلس الشورى والذين يعتبرون ممثلين للشعب لا يجوز مساءلتهم، لا مدنياً ولا جنائياً، وذلك عن الأفكار والآراء والأقوال التي تصدر منهم أو يصرحون بها داخل مجلس الشورى أو حتى في لجانه اذا كان ذلك ضرورياً لأداء وظائفهم.
وكما علقت المذكرة التفسيرية للدستور للقطري بأنه:
بأي حال من الأحوال يجب أن لا يكون في الرأي الصادر من عضو مجلس الشورى:
1) أي مساس بأسس العقيدة.
2) أو بوحدة الوطن
3أو بالاحترام الواجب للأمير
- وحسن فعل المشرع القطري ذلك في مذكرته التفسيرية مع تأييدنا القانوني والشرعي له.
- حدود الحصانة لعضو مجلس الشورى:
كما تم ذكره وبيانه.. فإن الحصانة لعضو مجلس الشورى ليس هدفها أن تجعل الأعضاء مميزين قانونياً عن المواطنين القطريين، أو من يعيش على إقليم الدولة!! يعملون ما يشاءون دون أي مساءلة قانونية، ولكن الهدف الاساسي لهذه الحصانة هي توفير الأمان والشعور بالطمأنينه والراحة والحرية المطلوبة لكي يؤدي أعضاء مجلس الشورى مهامهم تحت قبة المجلس دون خوف ودون حرج ودون تفكير ودون خشية من السلطات.
- ويمكن أن نقسم هذه الحصانة إلى الآتي:
1) المستوى الأول:
يمكن أن نطلق عليه (موضوعي)
أي تتعلق بنوعية الأفعال التي تشملها هذه الحصانة، أي أن هذه الحصانة تبقى على مستوى الأداء والأفكار والأقوال التي تصدر من عضو مجلس الشورى.
وبالطبع يجب أن تكون ضرورية لأداء مهامه في المجلس، لذلك فإن أي جرائم عادية يرتكبها عضو مجلس الشورى لا تشملها هذه الحصانة، وعلى سبيل المثال:
قيام عضو مجلس الشورى بالاعتداء على عضو آخر داخل مقر مجلس الشورى، أو اعتداء العضو على أي شخص أو موظف تحت قبة المجلس، أو حتى خارج مبنى مجلس الشورى، أو أن يقوم العضو بتزوير في مضابط الجلسات، وغيرها من الجرائم التي لا يُعفى منها العضو بالحصانة المقررة.
- ولكن هنا أيضاً نقطة نظام يجب الإشارة إليها والتنبيه بشأنها لأعضاء مجلس الشورى:
أن هناك فرقا بين هذه المخالفات التي لا تدخل تحت موضوعية الحصانة البرلمانية وبين أي أقوال أو آراء يبديها عضو مجلس الشورى، فلعضو المجلس أن يتهم أي موظف أو أي مسؤول أو حتى أي وزير ما لم ينص القانون على خلاف ذلك يتهمهم بالرشوة، أو بالتزوير، أو بالخيانة، أو باستغلال نفوذهم،
وذلك دون أن تثار مسؤوليته الجنائية أو المدنية، حيث إن القانون والدستور يحصنه ضد هذه المسؤولية ما لم يكن هناك كما ذكرنا:
- مساس بالعقيدة
- مساس بوحدة الوطن
- مساس بالاحترام الواجب للأمير
وغير ذلك للعضو أن يبدي ما يشاء من أقوال وأفكار أو اتهام ضد أي موظف أو وزير.
2) المستوى الثاني:
- ويمكن أن نطلق عليه (مكاني)
أي أن أقوال عضو مجلس الشورى وأفكاره وآراءه عليه أن يبديها داخل المجلس أو في لجانه.
لذلك اذا أبدى عضو مجلس الشورى أي شيء من تلك الآراء أو الأقوال خارج المجلس ولجانه فيعتبر قانونياً انه تصرف كأي شخص عادي، وهنا تطبق على عضو مجلس الشورى جميع القواعد القانونية التي تحكم الأفراد العاديين مع وجود بعض من الاجراءات المعينة التي يجب أن تُتخذ في حالة عضو مجلس الشورى.
- الحصانة الإجرائية لعضو مجلس الشورى:
نصت المادة (113) من الدستور القطري على أن:
" لا يجوز في غير حالات التلبس القبض على عضو مجلس الشورى أو حبسه أو تفتيشه أو استجوابه إلا بإذن سابق من المجلس وإذا لم يصدر المجلس قراره في طلب الإذن خلال شهر من تاريخ وصول الطلب إليه اعتبر ذلك بمثابة إذن ويصدر الإذن من رئيس المجلس في غير أدوار الانعقاد.
في حالة التلبس يجب إخطار المجلس بما اتخذ من إجراءات في حق العضو المخالف وفي غير دور انعقاد المجلس يتعين أن يتم ذلك الإخطار عند أول انعقاد لاحق له".
إذا نظرنا من خلال هذه المادة في الدستور القطري فإنها تعطي عضو مجلس الشورى استقلالية وحرية، وتعطي لوظيفة العضو الطمأنينة والحصانة ضد المسؤولية الجنائية والمدنية وذلك عن كل ما يبديه عضو مجلس الشورى من اراء وأقوال وأفكار داخل مجلس الشورى أو لجانه، وأيضاً حماية لعضو مجلس الشورى من أي إجراءات جنائية تعسفية، وأيضاً تمكين السلطة التنفيذية من ان تكيد بعضو المجلس أو تتخذ اجراءات ضده وبالتالي لا تجعله يؤدي مهامه في مجلس الشورى على أكمل وجه.
- ونأخذ الآن جانبا من تعليق المذكرة التفسيرية على هذا الموضوع:
حيث علقت المذكرة التفسيرية أنه يحدث احياناً ان المجالس النيابية قد تترك طلب الإذن ولا ترد عليه، وقد تطول المدة وتضيع معالم الجريمة محل المساءلة لذلك واجه الدستور القطري هذه الحالة مقرراً انه اذا لم يصدر مجلس الشورى قراره في طلب الاذن خلال شهر من مدة معينة من تاريخ وصول الطلب إليه فإن ذلك يعتبر بمثابة اذن، وتستطيع من خلاله النيابة العامة والسلطات المختصة أن تشرع في اتخاذ الاجراءات المطلوبة من قبض وتفتيش وحبس وما إلى ذلك.
كما أن المذكرة التفسيرية علقت بأن هذه الحصانة الاجرائية حتى في حالات التلبس فإن من حق المجلس أن يعرف ما يحدث بالنسبة لأي عضو من أعضائه، لذلك أوجب الدستور القطري أنه في حالات التلبس والتي تبيح اتخاذ كافة الاجراءات الجنائية فإنه يجب إخطار مجلس الشورى بما اتخذ من اجراءات في حق العضو الذي ارتكب المخالفة أو الجريمة، واذا لم يكن المجلس منعقدا قإنه يتعين إخطار المجلس عند أول انعقاد لاحق له.
وقد يجوز أخذاً بالأحوط أن يخطر رئيس المجلس أو مكتب المجلس بما اتخذ من إجراءات إلى ان يعود المجلس للانعقاد، وعندئذ يجري إخطاره بكل ما اتخذ من إجراءات في حق العضو.
واضح من رد المذكرة التفسيرية أن هذه الحصانة هي حصانة ضد الاجراءات الجزائية ولا تمتد إلى الاجراءات المدنية، وان كانت تشمل كافة الاجراءات الجزائية وأيضا واضح من نص المادة أن هذه الحصانة تخلي عن العضو من المسؤولية الجنائية كاملة وذلك عما يرتكبه من أفعال وما ذلك إلا أن هذه الاجراءات الجنائية يجب أخذ الاذن فيها من مجلس الشورى وذلك كإشارة إذن للبدء بها، ومن ثم الاستمرار في اجراءاتها، وما أن يُعطي مجلس الشورى الضوء الأخضر فإنه يعامل عضو مجلس الشورى كأي فرد عادي، ويتم التحقيق معه ويفتش ويقبض عليه ويحبس وتتخذ ضده جميع الاجراءات الجنائية الأخرى.
ولكن أيضاً في حالة أن لم يُعطِ المجلس الضوء الأخضر أو الإذن بذلك ؟ فإن هذا الرفض من قبل مجلس الشورى ليس بالضروري ان يعفي العضو من المسؤولية الجنائية، ولكن يعتبر مجرد تأجيل فقط لا غير وذلك في اتخاذ أي اجراءات جنائية ضد العضو إلى أن تنتهي هذه العضوية في مجلس الشورى.
- إذا انتقلنا للشق الجنائي فإن هناك ثلاثة احتمالات نوجزها في التالي:
1) الاحتمال الأول:
هو ارتكاب عضو مجلس الشورى جريمة بما يسمى (بالجرم المشهود)، وهي التي تفترض ثبوت هذه الجريمة في حق عضو مجلس الشورى، ومن ثم نستطيع أن ننفي عن السلطة التنفيذية شبهة الكيد في عضو مجلس الشورى أو توافر النية في إعاقة هذا النائب عن عمله تحت قبة المجلس.
لذا.. وفي هذه الحالة يجوز اتخاذ الاجراءات الجزائية ضد هذا العضو وذلك بغض النظر عن زمان ارتكاب هذه الجريمة المشهودة في غير أدوار الانعقاد أو فيما بينها، ولكن أيضاً يجب أن يُخطر مجلس الشورى بذلك في أول اجتماع له بعد أن يتم اتخاذ هذا الإجراء.
2) الاحتمال الثاني:
وهو ارتكاب عضو مجلس الشورى جريمة لا تدخل في وصف الجريمة المشهودة وفي غير أدوار الانعقاد، وأيضاً هنا نستطيع أن ننفي عن السلطة التنفيذية شبهة الكيد في عضو مجلس الشورى أو توافر النية في إعاقة هذا النائب عن عمله تحت قبة المجلس.
وهنا أيضاً تُتخذ من الاجراءات الجزائية ضد هذا العضو بشرط أن يتم إخطار مجلس الشورى بالإجراءات ضد العضو في أول اجتماع للمجلس في دور الانعقاد، وذلك لأخذ إذن المجلس في الاستمرار في هذه الاجراءات.
3) الاحتمال الثالث:
وهو اتهام عضو مجلس الشورى بجريمة لا ينطبق عليها الجرم المشهود، وهنا نستطيع القول أن هناك شبهة على السلطة التنفيذية بأن القصد من هذا الإجراء هو التأثير على وظيفة عضو مجلس الشورى وذلك لإعاقته وتعطيله عن أداء مهامه الوظيفية في المجلس على أكمل وجه.
لذا.. تجد أن الدستور القطري اشترط أن يؤخذ إذن مسبق من مجلس الشورى قبل أن يُتخذ أي اجراء جزائي ضد عضو مجلس الشورى المتهم.
ملاحظة للسادة النواب:
عن كيفية إعطاء مجلس الشورى الإذن باتخاذ أي إجراء جزائي يتم ذلك عن طريق نصوص اللائحة الداخلية لمجلس الشورى والتي سوف ترى النور قريباً فهي من تفصل ذلك.
وهذه اللائحة الداخلية هي التي تحدد كيفية تقديم طلب الإذن؟
وهي التي تحدد كيف ترفع الحصانة عن العضو؟
وهي التي تبيّن ما هي الأوراق التي يجب أن ترفق في القضية المطلوب اتخاذ الإجراءات الجزائية فيها؟
وهي التي تحدد إلى من ترفع هذه الأوراق؟
وهي التي تبيّن اذا ماكان هناك أي عرائض أو مستندات ترفع معها؟
وهي التي تحدد من الذي يحيل هذه الطلبات؟
وهي التي تحدد إلى من تحال هذه الطلبات؟
وهي التي تبيّن كيف تنظر في اللجنة؟
وهي التي تبيّن بأي طريقة تُنظر؟
واللائحة هي التي تحدد هل يتم بحث القضية في المجلس؟
وهي التي تحدد كيفية البحث؟
وغير ذلك من الأمور الدارجة في اختصاص اللائحة الداخلية المنتظرة لمجلس الشورى؟
أخيراً:
هذه الحصانة لأعضاء مجلس الشورى من النظام العام، لذلك لا يجوز للعضو أن يتنازل عنها دون موافقة مجلس الشورى.
خبـير قانـوني
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5058
| 20 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
4452
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3699
| 21 أكتوبر 2025