رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لا أود أن أكون جزءاً من البكائية السائدة حالياً، الناتجة عن غرق الطفل السوري "إيلان" مع والدته وشقيقه على أحد شواطئ تركيا, خلال رحيل عائلته هربا من قسوة الأحوال وسوء المعيشة والضنك, الذي يفرض حصاره على البلاد والعباد, ضمن آلاف رأوا أن اللجوء بعيدا عن الوطن هو الحل, بيد أن المشهد على وجه الإجمال لا يبعث على استدرار الدموع, أو بالأحرى استنزافها من المآقي فحسب, ولكنه يؤشر إلى المدى الخطير وغير المسبوق الذي بلغته الحالة السورية, في شقها الإنساني متجاوزة الحالة الفلسطينية, الناتجة عن اغتصاب الكيان الصهيوني, بكل قسوته وإفراطه في القوة لحقوق وأرض شعب,منذ أكثر من سبعة عقود, حيث لم يبلغ عدد اللاجئين سوى ست ملايين فلسطيني في الشتاب, بينما تجاوز عدد اللاجئين والنازحين السوريين في الداخل والخارح رقم الــ 13 مليون شخص, وهو ما اعتبره الدكتور نبيل العربي الأمين العام للجامعة العربية, الكارثة الإنسانية الأشد بشاعة ومأساوية في العصر الحديث واللافت أنها – أي هذه الكارثة - نجمت عن حاكم للشعب السوري, يزعم أنه جاء عبر انتخابات نزيهة وحرة, مما يؤهله للحديث باسمه والبقاء في الحكم رغم أنفه, ومن ثم فإن البكاء ونزف الدموع ,يكون من أجل شعب بأكمله دفعه بشار الأسد وزمرته الحاكمة, إلى الهجرة قسرا وملاقاة الموت اليومى, والإذلال المشفوع بالتوسل والتوسل في الموانئ وعلى الحدود, وفي الطرقات وعلى الشواطئ والركض من العسس والبصاصين, والذين يهدونهم في بعض المناطق طعاما وزجاجات مياه, ولكن بشرط ألا يبقوا في المساحات التي تخضع لسيطرتهم.
إن المسؤولية الأولى والأخيرة فيما جرى للطفل إيلان.. ولغيره من أطفال لم يحظوا بفرصة التصوير والمتابعة, تقع بالدرجة الأولى على عاتق الزمرة التي يقودها بشار, أو على وجه الدقة هي التي تقوده, فهي المتسببة في كل ما جرى لسوريا الوطن والشعب نتيجة تكريسها لمنهجية غطرسة القوة, والتمسك بالحل الأمني في مناهضة ثورة شعب, خرج في مطلعها مسالما مطالبا باستعادة حقوقه في الحرية والعدالة والديمقراطية, وبناء دولة المواطنة وليست دولة الحزب القائد, والفئة المذهبية المهيمنة على كل مفاصل الوطن, وكانت النتيجة قتل أكثر من 300 ألف مواطن سورى, وجرح مئات الألوف الآخرين, ولجوء ونزوح أكثر من 13 مليون بالداخل والخارج, والأخطر دفع مئات الألوف إلى الهجرة إلى الشواطئ الأخرى على المتوسط ودول أوربا,عبر سلوك الدروب غير المشروعة, فتكون الحصيلة الموت غرقا أو سجنا, أو على صلبا على قارب مطاطى أو خشبى متهالك بعد دفع تحويشة العمر.
صحيح أنه دخل على خط الأسباب القسرية للهجرة واللجوء إلى الخارج,عامل التنظيمات الإرهابية التي سيطرت على أكثر من نصف مساحة الوطن, وفي مقدمتها تنظيم داعش وجبهة النصرة, غير أن صعودهما إلى المشهد كان نتيجة وليس سببا, نتيجة لتعنت بشار وغياب الرؤية الصحيحة عن تقديره للموقف, إثر انفجار ثورة الشعب السوري, والتي نظر إليها من منظور ضيق ومتعال في الآن ذاته, واعتبر أن الوطن مختزل في ذاته وذاته هي الوطن, فدفعته الزمرة الحاكمة خاصة في بعدها الأمني والعسكري, ومجموعات رجال الأعمال المحيطين بنظام حكمه, إلى التمسك بالبقاء في السلطة, على الرغم من أن نظامه لا يسيطر سوى على مساحة تتراواح بين 10 إلى 15 في المائة, وعلى أكثر تقدير 20 في المائة من مساحة سوريا, بل إن داعش يقترب من العاصمة دمشق, وثمة فصائل قريبة من وسط العاصمة, ولو توحدت الفصائل الثورية غير المتطرفة, والتي تنأى بنفسها عن منهجية الإرهاب الأسود, لأمكن إسقاط نظام بشار بأسرع مما يتصور, على الرغم من الإسناد الذي يحصل على من روسيا,عبر تقديم العتاد العسكري, والذي يقترب من حد المشاركة في القتال ضد الثوار بشكل مباشر وفق تقرير لصحيفة نيويورك تايمز أمس الأول, أو من إيران وميليشيات شيعية في كل من لبنان والعراق.
إن جثمان الطفل الصغير إيلان - وأنا هنا أنقل عن بيان المناشدة التي وجهها إياد مدني الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي- إلى المجتمع الدولي برمته بأن يسقط كل الاعتبارات من حساباته باستثناء "الروح الإنسانية"، و"الكرامة الإنسانية" في معالجته لأزمة اللاجئين السوريين- الذي ألقت به الأمواج على الساحل جثة هامدة، قد عطل لغة الكلام وأخرس كل الألسنة، وذلك حتى يذكرنا بحجم المأساة الإنسانية الكبرى التي كابدها ولايزال يكابدها هو ومئات الآلاف من السوريين، أطفالاً ورجالاً وشباباً وشياباً.
فقد أرغموا، شأنهم في ذلك شأن العديد من أبناء بلدهم الآخرين، على الانطلاق في رحلات غاية في الخطورة والصعوبة، آملين في الحصول على حياة تحفظ أمنهم وكرامتهم في كنف أسرهم وأحبابهم, إن معاملة اللاجئين بطريقة غير التي تحفظ كرامتهم والتي تعاملهم بالرحمة والشفقة، عمل يؤلم ضمير الإنسانية.
وثمة مفارقة تتوقف عندها مناشدة مدني, وهي أن اللاجئين السوريين الذين قضوا نحبهم في عرض البحر المتوسط, أو قضوا اختناقا داخل شاحنة لتهريب البشر في النمسا، ليس من بينهم شخص واحد مسئول عن اندلاع الأزمة السورية,أو عن إخفاق جهود إيقافها.. لكنهم، مع ذلك، ومازالوا يعتبرون الضحايا المباشرين لهذه الأزمة ولفشل المجتمع الدولي، وخاصة أعضاء مجلس الأمن وبلدان المنطقة في إيجاد حل لها.. وبالتالي فإن هذا الوضع يجب ألا يستمر ولا ينبغي له.
ويتابع قائلا: "إن إنسانيتنا هي التي تغرق في ثنايا أمواج البحر المتوسط، وقيمنا ومبادئنا وكرامتنا الإنسانية هي التي تقضي اختناقاً. ومن ثم يجب علينا أن نضع حداً لهذه المأساة على الفور.
وبالطبع، أوافق مدني على مطالبته كافة الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي, والمجتمع الدولي برمته,إلى وضع الخلافات جانباً وحشد جميع الجهود لمساعدة أبناء الشعب السوري ولاجئيه, بحسبان أن هذه الأزمة ليست أزمة سورية أو شرق أوسطية أو أوروبية أو إسلامية، بل هي أزمة إنسانية عالمية تروح ضحيتها أرواح بشرية غالية.
لكن المعضلة – والكلام لكاتب هذه السطور- تكمن بالأساس في النظام الإقليمي العربي, والذي تجسده الجامعة العربية وعجزها عن التعامل مع هذه الإشكالية \ المأساة، وهو ما أقر به أمينها العام الدكتور نبيل العربي,عندما سأله الصحفيون عن رؤيته لتداعيات غرق الطفل إيلان, فانطلق معبرا عن هذا العجز قائلا: إنني أعرب عن أسفي الشديد لما جرى للطفعل ولكن معالجة موضوع اللاجئين أكبر من أن تقوم به الجامعة العربية, معتبرا أن المعالجة الحقيقية لتلك المأساة, تكمن في حل المشاكل السياسية في سوريا، مشيرًا إلى أنه رغم وجود مجهود دولي وعربي في هذا الصدد لكنه لم يفض إلى شيء, لافتا إلى أن استمرار الوضع المأسوي في سوريا – نتيجة استمرار الحرب - انعكست آثاره المدمرة على الشعب السوري, وما عانى منه من تهجير ولجوء ونزوح ومعاناة خارج سوريا وداخلها, يتطلب تضامنًا عربيًا وإجراءات عملية عاجلة للتخفيف من معاناة الشعب السوري, بالسعي لوقف القتال والإسهام في توفير متطلبات الإغاثة الإنسانية.
إن الآلام التي فجرتها واقعة الطفل إيلان عميقة, غير أن القفز عليها لن يتحقق إلا بفعل يعيد سوريا إلى سيرتها الأولى, بلادا للبهاء والخضرة والحقول والجمال ,بمنأى عن حكم بشار الأسد الذي لا يتعين أن يكون جزءا من معادلة الحل, لأنه هو الذي صنع معادلة المشكلة, وفي الوقت ذاته المحافظة على الدولة السورية ومؤسساتها الفاعلة, وتطهيرها مما علق بها من زمن بشار وزمرته قتلة الأطفال ومستخدمي البراميل المتفجرة ضد شعبهم وحتى لو ادعوا أنهم يحاربون الإرهاب, فهم الذين فتحوا شهيته للتمدد والانتشار, مطلوب من بشار أن يتجرع سم الرحيل وربما الهجرة قسرا.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
بات الذكاء الاصطناعي اليوم واقعاً لا يمكن تجاهله في ميادين العمل القانوني، حيث بدأت العديد من مكاتب المحاماة في مختلف الدول تستعين بتطبيقاته. غير أن هذه الاستعانة قد تثير، في بعض الأحيان، إشكالات قانونية حول مدى الاستخدام المنضبط لهذه التقنيات، ولا سيما عند الاعتماد على مخرجاتها دون التحقق من صحتها ودقتها، وهو ما تجلى بوضوح في حكم حديث صادر عن محكمة قطر الدولية، حيث تصدت فيه المحكمة لهذه المسألة للمرة الأولى في نطاق قضائها. فقد صدر مؤخراً حكم عن الدائرة الابتدائية بالمحكمة المدنية والتجارية لمركز قطر للمال، (المعروفة رسمياً باسم محكمة قطر الدولية)، في القضية رقم: [2025] QIC (F) 57 بتاريخ 9 نوفمبر 2025، بشأن الاستخدام غير المنضبط وسوء توظيف أدوات الذكاء الاصطناعي في العمل القانوني. وقد ورد في حيثيات الحكم أن أحد المترافعين أمام المحكمة، وهو محامٍ يعمل لدى أحد مكاتب المحاماة المقيدة خارج دولة قطر، كما هو واضح في الحكم، قد استند في دفاعه إلى أحكام وسوابق قضائية نسبها إلى المحكمة المدنية والتجارية لمركز قطر للمال. غير أن المحكمة، وبعد أن باشرت فحص المستندات والتحقق من الوقائع، تبين لها أن تلك السوابق لا وجود لها في سجلاتها الرسمية، ولم تصدر عن أي من دوائرها، وأن ما استند إليه المترافع إنما كان من مخرجات غير دقيقة صادرة عن أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي المدمجة في أحد محركات البحث الإلكترونية المعروفة، والتي عرضت أحكاما وسوابق قضائية وهمية لا أصل لها في الواقع أو في القضاء.وقد بينت المحكمة في حيثيات حكمها أن السلوك الذي صدر عن المحامي، وإن بدا في ظاهره خطأ غير مقصود، إلا أنه في جوهره يرقى إلى السلوك العمدي لما انطوى عليه من تقديم معلومات غير صحيحة تمثل ازدراء للمحكمة. وقد أشارت المحكمة إلى أنه كان بوسع المحامي أن يتحقق من صحة السوابق والأحكام القضائية التي استند إليها لو أنه بذل العناية الواجبة والتزم بأدنى متطلبات التحقق المهني، لا سيما وأن جميع أحكام المحكمة متاحة ومتوفرة عبر موقعها الإلكتروني الرسمي. وانتهت المحكمة إلى أن ما صدر عن المحامي يُشكل مخالفة صريحة لأحكام المادة (35.2.5) من القواعد والإجراءات المتبعة أمام المحكمة المدنية والتجارية لمركز قطر للمال لسنة 2025، والتي نصت على أن إعطاء معلومات خاطئة أو مضللة يُعد مخالفة تستوجب المساءلة والجزاء. كما أوضحت المحكمة أن استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، بوجه عام، في ميدان التقاضي هو أمر مرحب به لما يوفره من نفقات على أطراف الدعوى، ويُسهم في رفع كفاءة الأداء متى تم في إطاره المنضبط وتحت رقابة بشرية واعية. إذ إن الاعتماد عليه دون تحقق أو مراجعة دقيقة قد يفضي إلى نتائج غير محمودة. وقد أشارت المحكمة إلى أنها المرة الأولى التي يُستأنس فيها أمامها بأحكام منسوبة إليها لم تصدر عنها في الأصل، غير أنها أوضحت في الوقت ذاته أنّ مثل هذه الظاهرة قد ظهرت في عدد من الدول على خلفية التوسع في استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجال القانوني. وفي هذا الإطار، أشارت المحكمة إلى ما قضت به محكمة بولاية نيويورك في قضية Mata v. Avianca Inc (2023)، إذ تبين أن أحد المحامين قدم مذكرات قانونية اشتملت على أحكام وسوابق مختلقة تولدت عن استخدام غير دقيق لتقنيات الذكاء الاصطناعي. كما أشارت المحكمة إلى حكم آخر صادر عن محكمة بالمملكة المتحدة في قضية Ayinde v. Haringey (2025)، والذي أكد على وجوب المراجعة البشرية الدقيقة لأي نص قانوني أو سابقة قضائية يُنتجها الذكاء الاصطناعي قبل الاستناد إليها أمام القضاء، باعتبار ذلك التزاماً مهنياً وأخلاقياً لا يجوز التهاون فيه.كما لفتت المحكمة إلى أن ظواهر مماثلة قد لوحظت في بعض القضايا المنظورة أمام المحاكم في كندا وأستراليا، ويُظهر ذلك اتساع نطاق هذه الظاهرة وضرورة إحاطتها بضوابط مهنية دقيقة تكفل صون نزاهة الممارسة القانونية واستقلالها. وقد بينت المحكمة أنها بصدد إصدار توجيه إجرائي يقضي بأن الاستناد والإشارة إلى أي قضية أو مرجع أمام المحكمة في المستقبل دون التحقق من صحته أو من مصدره يُعد مخالفة تستوجب الجزاء، وقد يمتد أثرها إلى إعلان اسم المحامي ومكتبه في قرار المحكمة. وفي تقديرنا، يُعد هذا التوجه خطوة تُعزز مبادئ الشفافية، وتُكرس الانضباط المهني، وتُسهم في ردع أي ممارسات قد تمس بنزاهة الإجراءات القضائية وسلامة العمل القانوني. وفي الختام، نرى أن حكم محكمة قطر الدولية يُشكل رسالة مفادها أن الذكاء الاصطناعي سلاح ذو حدين، فإن أُحسن توظيفه كان عوناً في البحث والتحليل والاستدلال، أما إذا أُطلق دون رقابة أو وعي مهني، فقد يُقوض نزاهة التقاضي بين الخصوم ويُعد مساساً بمكانة المحكمة ووقارها.
2598
| 30 نوفمبر 2025
في الساعات المبكرة من صباح السبت، ومع أول شعاع يلامس مياه الخليج الهادئة، من المعتاد أن أقصد شاطئ الوكرة لأجد فيه ملاذا هادئا بعد صلاة الفجر. لكن ما شهده الشاطئ اليوم لم يكن منظرا مألوفا للجمال، بل كان صدمة بصرية مؤسفة، مخلفات ممتدة على طول الرمال النظيفة، تحكي قصة إهمال وتعدٍ على البيئة والمكان العام. شعرت بالإحباط الشديد عند رؤية هذا المنظر المؤسف على شاطئ الوكرة في هذا الصباح. إنه لأمر محزن حقا أن تتحول مساحة طبيعية جميلة ومكان للسكينة إلى مشهد مليء بالمخلفات. الذي يصفه الزوار بأنه «غير لائق» بكل المقاييس، يثير موجة من التساؤلات التي تتردد على ألسنة كل من يرى المشهد. أين الرقابة؟ وأين المحاسبة؟ والأهم من ذلك كله ما ذنب عامل النظافة المسكين؟ لماذا يتحمل عناء هذا المشهد المؤسف؟ صحيح أن تنظيف الشاطئ هو من عمله الرسمي، ولكن ليس هو المسؤول. والمسؤول الحقيقي هو الزائر أولا وأخيرا، ومخالفة هؤلاء هي ما تصنع هذا الواقع المؤلم. بالعكس، فقد شاهدت بنفسي جهود الجهات المختصة في المتابعة والتنظيم، كما لمست جدية وجهد عمال النظافة دون أي تقصير منهم. ولكن للأسف، بعض رواد هذا المكان هم المقصرون، وبعضهم هو من يترك خلفه هذا الكم من الإهمال. شواطئنا هي وجهتنا وواجهتنا الحضارية. إنها المتنفس الأول للعائلات، ومساحة الاستمتاع بالبيئة البحرية التي هي جزء أصيل من هويتنا. أن نرى هذه المساحات تتحول إلى مكب للنفايات بفعل فاعل، سواء كان مستخدما غير واعٍ هو أمر غير مقبول. أين الوعي البيئي لدى بعض رواد الشاطئ الذين يتجردون من أدنى حس للمسؤولية ويتركون وراءهم مخلفاتهم؟ يجب أن يكون هناك تشديد وتطبيق صارم للغرامات والعقوبات على كل من يرمي النفايات في الأماكن غير المخصصة لها، لجعل السلوك الخاطئ مكلفا ورادعا.
2256
| 05 ديسمبر 2025
فجعت محافل العلم والتعليم في بلاد الحرمين الشريفين برحيل معالي الأستاذ الدكتور الشيخ محمد بن علي العقلا، أحد أشهر من تولى رئاسة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، والحق أنني ما رأيت أحدًا أجمعت القلوب على حبه في المدينة المنورة لتواضعه ودماثة أخلاقه، كما أجمعت على حب الفقيد الراحل، تغمده الله بواسع رحماته، وأسكنه روضات جناته، اللهم آمين. ولد الشيخ العقلا عليه الرحمة في مكة المكرمة عام 1378 في أسرة تميمية النسب، قصيمية الأصل، برز فيها عدد من الأجلاء الذين تولوا المناصب الرفيعة في المملكة العربية السعودية منذ تأسيس الدولة. وقد تولى الشيخ محمد بن علي نفسه عمادة كلية الشريعة بجامعة أم القرى، ثم تولى رئاسة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة عام 1428، فكان مكتبه عامرا بالضيوف والمراجعين مفتوحًا للجميع وجواله بالمثل، وكان دأبه الرد على الرسائل في حال لم يتمكن من إجابة الاتصالات لأشغاله الكثيرة، ويشارك في الوقت نفسه جميع الناس في مناسباتهم أفراحهم وأتراحهم. خرجنا ونحن طلاب مع فضيلته في رحلة إلى بر المدينة مع إمام الحرم النبوي وقاضي المدينة العلامة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ وعميد كلية أصول الدين الشيخ عبد العزيز بن صالح الطويان ونائب رئيس الجامعة الشيخ أحمد كاتب وغيرهم، فكان رحمه الله آية في التواضع وهضم الذات وكسر البروتوكول حتى أذاب سائر الحواجز بين جميع المشاركين في تلك الرحلة. عرف رحمه الله بقضاء حوائج الناس مع ابتسامة لا تفارق محياه، وقد دخلت شخصيا مكتبه رحمه الله تعالى لحاجة ما، فاتصل مباشرة بالشخص المسؤول وطلب الإسراع في تخليص الأمر الخاص بي، فكان لذلك وقع طيب في نفسي وزملائي من حولي. ومن مآثره الحسان التي طالما تحدث بها طلاب الجامعة الإسلامية أن أحد طلاب الجامعة الإسلامية الأفارقة اتصل بالشيخ في منتصف الليل وطلب منه أن يتدخل لإدخال زوجته الحامل إلى المستشفى، وكانت في حال المخاض، فحضر الشيخ نفسه إليه ونقله وزوجته إلى المستشفى، وبذل جاهه في سبيل تيسير إدخال المرأة لتنال الرعاية اللازمة. شرفنا رحمه الله وأجزل مثوبته بالزيارة إلى قطر مع أهل بيته، وكانت زيارة كبيرة على القلب وتركت فينا أسنى الأثر، ودعونا فضيلته للمشاركة بمؤتمر دولي أقامته جامعة الزيتونة عندما كنت مبتعثًا من الدولة إليها لكتابة أطروحة الدكتوراه مع عضويتي بوحدة السنة والسيرة في الزيتونة، فكانت رسالته الصوتية وشكره أكبر داعم لنا، وشارك يومها من المملكة معالي وزير التعليم الأسبق والأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الوالد الشيخ عبدالله بن صالح العبيد بورقة علمية بعنوان «جهود المملكة العربية السعودية في خدمة السنة النبوية» ومعالي الوالد الشيخ قيس بن محمد آل الشيخ مبارك، العضو السابق بهيئة كبار العلماء في المملكة، وقد قرأنا عليه أثناء وجوده في تونس من كتاب الوقف في مختصر الشيخ خليل، واستفدنا من عقله وعلمه وأدبه. وخلال وجودنا بالمدينة أقيمت ندوة لصاحب السمو الملكي الأمير نواف بن فيصل بن فهد آل سعود حضرها أمير المدينة يومها الأمير المحبوب عبد العزيز بن ماجد وعلماء المدينة وكبار مسؤوليها، وحينما حضرنا جعلني بعض المرافقين للشيخ العقلا بجوار المستشارين بالديوان الملكي، كما جعلوا الشيخ جاسم بن محمد الجابر بجوار أعضاء مجلس الشورى. وفي بعض الفصول الدراسية زاملنا ابنه الدكتور عقيل ابن الشيخ محمد بن علي العقلا فكان كأبيه في الأدب ودماثة الأخلاق والسعي في تلبية حاجات زملائه. ودعانا مرة معالي الشيخ العلامة سعد بن ناصر الشثري في الحرم المكي لتناول العشاء في مجلس الوجيه القطان بمكة، وتعرفنا يومها على رئيس هيئات مكة المكرمة الشيخ فراج بن علي العقلا، الأخ الأكبر للشيخ محمد، فكان سلام الناس عليه دليلا واضحا على منزلته في قلوبهم، وقد دعانا إلى زيارة مجلسه، جزاه الله خيرا. صادق العزاء وجميل السلوان نزجيها إلى أسرة الشيخ ومحبيه وطلابه وعموم أهلنا الكرام في المملكة العربية السعودية، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، اللهم تقبله في العلماء الأتقياء الأنقياء العاملين الصالحين من أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. «إنا لله وإنا إليه راجعون».
1551
| 04 ديسمبر 2025