رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
أدى انتشار التكنولوجيات الرقمية في العالم العربي إلى مساحات سياسية كبيرة للنقاش والحوار والاختلاف والنشاط السياسي والنضال والاندماج. إلى أي مدى استطاعت البيئة الإعلامية والاتصالية الجديدة وتستطيع مستقبلاً إفراز سياسة بديلة عن تلك التي سادت لعقود من الزمن وستستطيع أن تحدث التغيير الاجتماعي؟ ما هو الجديد في الإعلام الجديد وبخاصة الشبكات الاجتماعية وكيف استخدم الناشطون والشباب والمتظاهرون والمحتجون والمهمشون والطبالون وغيرهم الإعلام الجديد للنقاش والحوار والتوعية والتعبئة والتجنيد والمظاهرات والاحتجاجات لتغيير الأوضاع والاستجابة لمطالبهم؟. كيف تعاملت السلطة مع الإعلام الجديد وهل نجحت في تكميمه؟
من أهم المواصفات التي تميز شبكات التواصل الاجتماعي هي أن المحتوى يصنعه الزوار والمتصفحون، فالتطورات الجديدة التي شهدتها شبكة الانترنت أدت إلى نقلة كبيرة في عالم التواصل عبر الانترنت. وعلى عكس الإعلام التقليدي، فإن الإعلام الجديد أدخل مفاهيم وآليات جديدة في عالم الاتصال، حيث إن نموذج هارولد لاسوال — المرسل والمستقبل والوسيلة والرسالة ورجع الصدى — أصبح لا يفي بالغرض لفهم العملية الاتصالية، وحتى نظريات حارس البوابة وتحديد الأجندة وغيرها أصبحت غير صالحة لشرح البيئة الجديدة للتواصل الاجتماعي. ففي هذه البيئة أصبح المستقبل هو المرسل وهو صانع الرسالة الإعلامية وأصبح هو حارس البوابة ينتقي ما يحلو له ويتصفح ما يلبي رغباته ويتغاضى عما لا يعجبه. فحرية النشر والرأي مضمونة في الشبكات الاجتماعية وهذا ما يوفر جو النقاش والحوار والاختلاف وما يفرز في نهاية المطاف السوق الحرة للأفكار. وهنا نلاحظ التواصل الفعال بين مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي حيث تجمعهم اهتمامات مشتركة ومشاكل مشتركة وقضايا تشغل بالهم. أضف إلى ذلك أن المستخدم يختار ويتحكم في المحتوى المعروض، لأن مستخدمي الموقع يختارون بعضهم بعضا ويعرفون بعضهم ويتعارفون أكثر بعد الاستخدام والتواصل الفعال بينهم. هذا ما يؤدي إلى تفاعلية وإلى مشاركة فعالة تثري النقاش والحوار وتقدم أفكارا خلاقة وممتازة.
لا يوجد هناك مجالا للشك أن الشبكات الاجتماعية لعبت دورا محوريا في الثورات التي هزت الوطن العربي منذ نهاية ديسمبر 2010. فالإعلام الجديد وفر وسائل وإمكانيات معتبرة للناشطين السياسيين لاختراق الوسائل والطرق المختلفة التي كانت تستعملها السلطة للتعتيم والتكميم وإسكات من يحاول الخروج عن طاعتها وإرادتها. ساعد الإعلام الجديد على إدخال التفاعلية والسرعة بين المشاركين في الفضاء العام الإلكتروني، الأمر الذي كان غير ممكن في زمن البرقيات والفاكس والهاتف. فالوسائل الجديدة سمحت بتدويل القضية وبإيصال صوت الفقراء والمهمشين والشباب العاطل عن العمل إلى أرجاء العالم المختلفة. شباب الثورات العربية استطاعوا أن يتواصلوا مع بعضهم البعض ليس داخل حدود بلدهم فقط، بل في الدول العربية والعالم بأسره واستطاعوا أن يكسبوا تعاطف وتضامن مواطنيهم المغتربين في دول العالم. فالإعلام الجديد قام بتعبئة الجماهير ووفر الفرصة للمتظاهرين والمحتجين بنشر موجات من النصوص والفيديوهات والصور مباشرة من ساحات وميادين الثورة إلى الملايين وبطريقة غير مباشرة إلى شبكات الأخبار العالمية مثل "سي إن إن، وبي بي سي، والجزيرة والعربية" ونظرا لهذه الميزات والتي تتمثل أساسا في القدرة على إرسال رسائل إلى جماهير عالمية عريضة يمكن اعتبار الشبكات الاجتماعية مصدرا رئيسيا مهما للعمل المشترك والتغيير الاجتماعي.
إن الدور الذي لعبته الشبكات الاجتماعية في الثورات العربية في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا في السنوات الماضية يشير إلى بروز نمط جديد من التواصل والتفاعل بين مكونات الشعب لتحقيق مطالبه المشتركة. فالإعلام الجديد أفرز فضاءً عاما اجتمعت فيه القوى الشعبية للإطاحة بالأنظمة الفاسدة والطاغية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل سيستمر هذا الفضاء لتحقيق أهداف الثورة في المستقبل من خلال مرحلة انتقالية تهدف إلى بناء الركائز والدعائم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الجديدة؟ وهذا هو التحدي الأكبر لأن الإطاحة بالأنظمة الفاسدة ما هي إلا مرحلة أولى لا تعني شيئا إن لم تكملها مرحلة ثانية توفر فرص العمل والديمقراطية والشفافية والحرية والعدالة الاجتماعية. هل ستتوقف مهام الشبكات الاجتماعية عند التعبئة فقط، أم أن هناك فرصا جديدة يجب استثمارها واكتشافها لتوظيف هذه الشبكات في تحقيق التنمية المستدامة والحكم الراشد. أم أن هذه المهمة هي من اختصاص أهل السياسة والاقتصاد والمجتمع المدني والمنظومة الإعلامية؟ تحديات كبيرة تنتظر من يريد التغيير وتوفير العيش الكريم لأفراد المجتمع وخاصة الشباب العاطل عن العمل والمتعطش للتمتع بحقه في حياة كريمة وشريفة.
من جهة أخرى نلاحظ من أطلق على شبكات التواصل الاجتماعي "شبكات الانفصال الاجتماعي" أو "شبكات الاغتراب الاجتماعي" وهذا نظرا لقضاء مثل هذه الشبكات على الكثير من مقومات الاتصال الإنساني ومن الموضوعية والأخلاق والنزاهة والالتزام. فإذا كانت هذه التكنولوجيات الحديثة تتميز بإيجابيات وبأشياء جديدة وكثيرة أضافتها للفضاء الاتصالي الإنساني، فإنها من جهة أخرى تم استغلالها في أشياء أساءت أكثر مما أفادت الانسان. وإذا قيمنا التجربة على المستوى العربي نجد أن أنظمة الحكم ما زالت تسيطر بطريقة أو بأخرى على قنوات الاتصال الرسمي وعلى السيطرة على مفاتيح الرأي العام وكذلك مضايقة نشطاء محطات التواصل الاجتماعي سواء عن طريق المحاكمات التعسفية أو السجن أو في بعض الأحيان التصفيات الجسدية. من سلبيات شبكات التواصل الاجتماعي كذلك التضليل والتلاعب والتحريف والتشويه. على الصعيد الشخصي والإنساني نلاحظ العزلة والانجراف نحو عالم افتراضي بعيدا عن الواقع. هذه الشبكات أصبحت منصات لنشر أفكار هدامة وثقافات الإباحية والمجون وانتهاك خصوصية الفرد. لا ننسى استخدام شبكات التواصل الاجتماعي من قبل "داعش" وغيرها من الجماعات الإرهابية التي أتقنت جيدا استخدامها لجمع الأموال والتجنيد ونشر أيديولوجياتها بكل مهنية وحرفية.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6528
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6405
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3900
| 21 أكتوبر 2025