رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
وقد ينثني دمع العين طرباً ما لم يحير من شدة الألم
فما بين مشاعر البهجة والفخر بما وصلنا إليه في هذا الوطن الغالي، من نقلة حضارية جبارة، وتسارع مسير قطار التكنولوجيا المبهر، إذ كيف من العدم قد رصت الأبنية وتشكلت في أبهى صورها، وتواترت الإنجازات التي تحمل في أنفاسها شذى الانعتاق من كل قيد وتنبثق عن إرادة وعزيمة عنيدة أمام كل المحاولات المستميتة لإجهاض مسيرة التقدم والنماء بعيداً عن التبعية أو الاذعان والوصاية عبر سلسلة من المواقف الوطنية والقومية التي كانت مدعاة للفخر والاعتزاز وتقديم العبرة للأجيال القادمة، وما تزال الخطى تتسابق في ركب المنافسة حيث تتجسد الرؤية الاستشرافية للمستقبل بكل ما يحمله من تطلعات وطموحات.
بينما نعتصر ألماً، لمنظر آلة التطور وهي تجتث الغالي والنفيس من تراب هويتنا، تراثنا وقيمنا التي تعتبر أساس انتمائنا والبعد الوجودي لكينونتنا وخصوصيتنا، وتبدلها بصور واعتقادات لا تنتمي لمجتمعنا وعاداته، فالتمسك بالموروث مطلب لإثبات الهوية الوطنية، حتى لا تنسلخ عن جلدتها فتبدله بآخر لا يؤاتيها ولا يمثلها، فالتطور والانفتاح والحداثة لا تعني التفريط في الهوية، حتى نوشك أن نشعر بالغربة ونحن تحت سقف الوطن !! هذا بالتحديد ما يحصل، حيث الشعور بأن السعي وراء التطور والرقي هو من أجل إرضاء آخرين ينظرون إلينا بنظرة الدونية والتخلف !! وقد بُذرت في عقولهم هذه المعتقدات منذ مئات السنين فلن تفلح المحاولات مهما كانت عظيمة وعميقة في كسب ودهم !!
إنه من الأولى التركيز على ترسيخ مفاهيم الهوية الوطنية العربية والاسلامية، فيراها ويستشعر بها كل من يعيش على هذا الوطن، ويعجب بها كل من يزور هذه الأرض الطيبة المعطاءة، وفرض القوانين التي تلزم الآخرين باحترام العادات والتقاليد التي تشكل روافد تلك الهوية وجذورها الضاربة المتعمقة منذ الأزل في قلوبنا، فالحقيقة التي يجب أن يستوعبها البعض جيداً، أن الشعوب تتباين عن غيرها بصبغات مختلفة، مما يمنحها صفة التميز، وهذا مدعاة للإعجاب والفخر، قال عزّ من قال "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم" فقد منح الخالق جميع الشعوب ملامح خاصة يتصفون ويُعرَفون من خلالها، فلماذا نرغب في أن نكون نسخة مكررة عن الآخرين، لماذا نستحقر خصائصنا التي ميزنا الله بها عن الآخرين وننظر إليها بنظرة تخلف وازدراء؟! لماذا نسعى أن نقدم للغير ما يناسبهم ولا يلائمنا ؟!! رغم أنه من الجميل أن يجرب الإنسان أشياء لم يألفها، أو يتعامل مع ذات الأشياء ولكن بالطريقة التقليدية للشعب والبلد الذي يقيم فيه أو اختار أن يزوره
لماذا ما نزال نستعير من الآخرين معتقداتهم وعاداتهم وحتى أسلوبهم و طرق تفكيرهم وإن كانت فاسدة؟!! ونتنكر لكل ما هو إسلامي وتراثي وينبع من أصالتنا وتاريخنا وإن كان جميلا ؟؟ حتى وصل بالبعض أن يحتفل بمناسبات لا تمت لديننا ولا لمعتقداتنا بأية صلة، والمدهش في الأمر أن يكون هناك تنافس في شكل الاحتفالات والتجمعات التي تقام للاحتفال بمثل هذه المناسبات الدخيلة، فعندما أعقد مقارنة صغيرة فقط عما يحدث في بلادنا وبلادهم وأرى أنه لا أحد قد يهتم لمناسباتنا وشعائرنا، بينما أرى الفارغين من العقل والدين هنا يتسابقون على الاحتفال بأعيادهم الدينية وغيرها، كاحتفالهم بالهيولين وأعياد الكريسمس المسيحية، فلا يخلو فندق أو مجمع تجاري وللأسف بعض المنازل المسلمة من أشجار الكريسمس!! ناهيك عن إقامة بعض الحفلات والفعاليات الموجهة لاجتذاب رضا الغرباء!! ليمجدونا في صحفهم وإعلامهم!! بدعوى التقدم والتحضر والتسامح مع الآخر، فكيف ندعي الاستقلال والحرية ونحن سجناء لعقلية غريبة عنا ؟! وكيف نرهن إرادتنا للغير يفعل بها ما يشاء؟! لا أرى حرية في ذلك مطلقاً!! فما الأسباب الحقيقية وراء هذا الانقياد الأعمى والتخبط العشوائي في ثقافة لا تعبر عن شخصيتنا، فبتنا لا نعلم حقيقتنا، وقد فقدنا مشاعر الاعتزاز بالتراث والروافد الأصيلة لهويتنا، نتقيد بمعتقدات دخيلة كدليل على النهضة والتطور والانفتاح، فالأصل التمسك بالهوية الإسلامية والعربية فهي ليست مجرد شعارات نقرأها في الصحف والكتب وإنما يجب أن تترجم فعلياً على أرض الواقع الذي يفتقر حقيقة إلى ذلك، خصوصاً بعد أن انصرفنا عن لغتنا ولبسنا ثوباً ليس بثوبنا، فالجميع يهتف ويبادر إلى تشجيع اللغة العربية وكأنها دخيلة علينا وليست كالدم تجري في عروقنا، فالهتافات شيء وما يحدث شيء آخر، فمعظم التعاملات أصبحت بلغة غير لغتنا، فإن كنت لا تعرف الإنجليزية فستشعر بأنك جاهل ومتأخر، إذ أصبحت اللغة الإنجليزية مقياسا لمدى تقدم الفرد في مجتمعنا، أصبحنا غرباء في وطن يعج بأطياف الجنسيات المختلفة، أتذكر منذ زمن عندما كنت أزور دولة خليجية كنت أتمنى أن أرى فيها مواطنيها وسكانها الأصليين، بعد أن أصبحوا قلة في مجتمعهم، وها أنا أرى اليوم نفس الصورة تتكرر إذ أصبح المواطنون قلة في ظل الوجود الديموغرافي الهائل والخطير للجنسيات الأخرى والذي يهدد التركيبة السكانية.
ولهذا فقدنا احترامنا بعدما تنازلنا عن فرض اعتزازنا بهويتنا، واستسلمنا طواعية لكل فكرة ومعتقد وافد غريب، فما أسهل أن نساق خلف كل تافه وردئ، فأصبحنا في نظر الآخرين كفرخ البجع الذي ظن أنه فرخ بط بعد أن تاه في المزرعة وعاش مع طيور البط مقلدا ومحاكياً لحركاتهم، فلم يستطع أن يتأقلم معهم لأنه في النهاية اكتشف حقيقته وذهب إلى بني جنسه الذين ينسجم معهم، فما أشبهنا بفرخ البجع هذا حين نحاول أن نلبس ونأكل ونشرب ونتزوج ونفكر ونعمل كما يفصلون لنا بالقياسات الأجنبية، فهل يجرؤ أحد أن يكبح اندفاعاته ويمكث برهة مع نفسه فيسألها لماذا؟
التحدي أن تقبض بيد على آلة التطور والانفتاح وتقبض بالأخرى على القيم والأخلاق والموروث واللغة المكونة للهوية الإسلامية والوطنية لحمايتها من الاندثار في ظل هذا الزخم من الهويات المتعددة فوق أرض واحدة، وهذه المسؤولية يشترك بها الأفراد والأسر والمؤسسات وأصحاب المشاريع التجارية كالمطاعم والمقاهي ونحوها - لما لها من نفوذ بالغ في انتشار بعض السلوكيات والاتجاهات المستوردة وغير المألوفة - بدءاً من حرصهم على إحياء عقيدتهم وهويتهم الإسلامية والوطنية والعربية والاعتزاز بها في نفوس النشء وانتهاءً بالممارسات الفعلية التي تبرز وتدعم ذلك من خلال التوجيهات والإجراءات اللازمة للامتثال للقواعد الارتكازية للهوية الإسلامية والوطنية.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
3066
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
2997
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء. فالتعليم يمنح الإطار، بينما التدريب يملأ هذا الإطار بالحياة والفاعلية. في الجامعات تحديدًا، ما زال كثير من الطلاب يتخرجون وهم يحملون شهادات مليئة بالمعرفة النظرية، لكنهم يفتقدون إلى الأدوات التي تمكنهم من دخول سوق العمل بثقة. هنا تكمن الفجوة بين التعليم والتدريب. فبدلاً من أن يُترك الخريج يبحث عن برامج تدريبية بعد التخرج، من الأجدى أن يُغذّى التعليم الجامعي بجرعات تدريبية ممنهجة، وأن يُطرح مسار فرعي بعنوان «إعداد المدرب» ليخرّج طلابًا قادرين على التعلم وتدريب الآخرين معًا. تجارب ناجحة: - ألمانيا: اعتمدت نظام التعليم المزدوج، حيث يقضي الطالب جزءًا من وقته في الجامعة وجزءًا آخر في بيئة العمل والنتيجة سوق عمل كفؤ، ونسب بطالة في أدنى مستوياتها. - كوريا الجنوبية: فرضت التدريب الإلزامي المرتبط بالصناعة، فصار الخريج ملمًا بالنظرية والتطبيق معًا، وكانت النتيجة نهضة صناعية وتقنية عالمية. -كندا: طورت نموذج التعليم التعاوني (Co-op) الذي يدمج الطالب في بيئة العمل خلال سنوات دراسته. هذا أسهم في تخريج طلاب أصحاب خبرة عملية، ووفّر على الدولة تكاليف إعادة التأهيل بعد التخرج. انعكاسات التعليم بلا تدريب: 1. اقتصاديًا: غياب التدريب يزيد الإنفاق الحكومي على إعادة التأهيل. أما إدماج التدريب، فيسرّع اندماج الخريج في السوق ويضاعف الإنتاجية. 2. مهنيًا: الطالب المتدرب يتخرج بخبرة عملية وشبكة علاقات مهنية، ما يمنحه ثقة أكبر وفرصًا أوسع. 3. اجتماعيًا: حين يتقن الشباب المهارات العملية، تقل مستويات الإحباط، ويتحولون من باحثين عن وظيفة إلى صانعين للفرص. حلول عملية مقترحة لقطر: 1. دمج التدريب ضمن المناهج الجامعية: أن تُخصص كل جامعة قطرية 30% من الساعات الدراسية لتطبيقات عملية ميدانية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص واعتماد التدريب كمتطلب تخرج إلزامي لا يقل عن 200 ساعة. 2. إنشاء مجلس وطني للتكامل بين التعليم والتدريب: يضم وزارتي التعليم والعمل وممثلي الجامعات والقطاع الخاص، ليضع سياسات تربط بين الاحتياج الفعلي في السوق ومخرجات التعليم. 3. تفعيل مراكز تدريب جامعية داخلية: تُدار بالشراكة مع مراكز تدريب وطنية، لتوفير بيئات تدريبية تحاكي الواقع العملي. 4. تحفيز القطاع الخاص على التدريب الميداني. منح حوافز ضريبية أو أولوية في المناقصات للشركات التي توفر فرص تدريب جامعي مستدامة. الخلاصة التعليم بلا تدريب يظل معرفة ناقصة، عاجزة عن حمل الأجيال نحو المستقبل. إنّ إدماج التدريب في التعليم الجامعي، وإيجاد تخصصات فرعية في إعداد المدربين، سيضاعف قيمة التعليم ويحوّله إلى أداة لإطلاق الطاقات لا لتخزين المعلومات. فحين يتحول كل متعلم إلى مُمارس، وكل خريج إلى مدرب، سنشهد تحولًا حقيقيًا في جودة رأس المال البشري في قطر، بما يواكب رؤيتها الوطنية ويقودها نحو تنمية مستدامة.
2856
| 16 أكتوبر 2025