رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
"...وسوف نعلن فى الوقت المناسب عن خطط لاعادة هيكلة الوزارات لتقليل الازدواجية ولكى تكون جميع المجالات العامة تحت مسئولية وزارات واضحة ومحددة" هكذا قال سيدى حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثانى أمير البلاد المفدى فى خطابه التاريخى للشعب القطرى بتاريخ 26/6/2013 الذى وضح خلاله التوجه العام للدولة فى الفترة القادمة، الا ان هناك من يختزل كلمات سموه فقط فى موضوع تحويل بعض المجالس العليا والهيئات بالدولة الى وزارات معتقدين ان هذا هو الحل السحرى للقضاء على الازدواجية (مثال: تحويل المجلس الاعلى للتعليم الى وزارة التعليم) وكأن المسميات هى من تخلق الازدواجية وضعف الاداء، ونسوا ان الازدواجية هى التشابه والتداخل فى الاختصاصات بين الجهات المختلفة.
ان الخبراء والمستشارين الاجانب فى المرحلة السابقة حاولوا حل هذه المشكلة ولكن ليس عن طريق اعادة هيكلة الوزارات والمؤسسات التى يتميز عملها بالتداخل والازدواجية كما هو الحال اليوم، ولكن عن طريق تبنى فكرة جديدة تستند الى انشاء هيئات ومجالس عليا ذات استقلالية مالية وادارية، ورغم أن هذه الفكرة كانت فى مضمونها تعد جيدة الا انها تسببت فى خلق المزيد من الازدواجية فى الفترة الماضية، وكانت بوابة لاهدار المال العام كما انها ادت وفى نفس الوقت الى ازدياد عدد الموظفين القطريين المحالين الى البند المركزي، لأنهم كما رأهم الخبراء والمستشارون الاجانب، هم السبب الرئيسى فى تأخر النمو والتنمية فى الدولة.
ان القضية الجوهرية التى أثارها سمو الأمير المفدى قد حركت المياه الراكدة حول مشكلة الازدواج الادارى والتداخل فى الاختصاصات، وما خلفته من سلبيات خلال الفترة الماضية، حيث مثلت صورة من صور البيروقراطية الادارية التى تستنزف موارد الدولة وتهدر الوقت والجهد والمال وتسمح بتضخم الكادر الادارى بلا مبرر، كما تعنى ايضا تعقيد المعاملات وتصعيبها على المستثمر والمواطن على حد سواء وذلك بسبب تنصل كل جهة من القيام بما هو مطلوب بحجة أنها تقع فى اختصاص جهات أخرى وهو ما لا يحقق المصلحة العامة للدولة، كما انه يزيد من احتمال فكرة أن تكون هنالك ازدواجية فى بعض المجالات، وأن توجد فى الوقت ذاته مجالات مهمة ورئيسية من دون مؤسسات حكومية تغطيها، وهو ما يعتبر من الامور غير المنطقية وغير المقبولة على الاطلاق، لما لها من دور كبير فى تعطيل العمل ومصالح المواطنين ورجال الأعمال، كل هذا ما يبرر استحداث بعض الوزارات الجديدة (مثل وزارة التنمية الادارية) ودمج وزارات وهيئات اخرى فى محاولة للقضاء على مشكلة الازدواجية أو على الأقل التقليل منها.
لقد واجه المراجعون والمتعاملون مع الاجهزة الحكومية المختلفة فى الفترة الماضية الكثير من المشاكل المتعلقة بالازدواجية والبيروقراطية الادارية والتى لا يمكن حصرها فى اسطر هذه المقالة، ولكن ربما يمكن ذكر بعضها هنا وذلك للتوضيح فقط، حيث ان افضل الامثلة على ذلك هو ما حدث فى موسم الحج العام الماضى من صعوبة بالغة فى تحديد الجهة المسؤولة عن بعض التقصير فى العمل وذلك بسبب تبادل الاتهامات النابع من تضارب وتنازع ثلاث جهات مشرفة على الحج وهى ادارة الحج ولجنة الحج وبعثة الحج!! وهو ما الحق الضرر طبعا ببعض الاخوان المقاولين القائمين على الحج، حيث يعد هذا المثال من ابرز الامثلة على الازدواجية التى اهتم بها الرأى العام وتم التطرق اليها كثيرا فى الاعلام العام الماضي، الا ان هناك امثلة اخرى كثيرة على الازدواجية يمكن التنويه اليها ومنها موضوع حقوق الانسان، فلدينا اللجنة الوطنية لحقوق الانسان، وادارة حقوق الانسان — بوزارة الداخلية، ومكتب حقوق الانسان — بوزارة الخارجية، وادارة علاقات العمل والعمال — بوزارة العمل، والمؤسسة القطرية لمكافحة الاتجار بالبشر، وجميعها طبعا تتشابه وتتداخل فى الاختصاصات.
كذلك المشكلة التى يواجهها المتعاملون مع وزارة العمل ووزارة الشؤون الاجتماعية بسبب الانفصال والاندماج المتأرجح وعلى مدار سنوات فى هيكلة الوزارتين، فوزارة العمل عرفت باكثر من مسمى مختلف فبدأت بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية ثم انتقلت تحت مظلة وزارة شؤون الخدمة المدنية والاسكان قبل الغائها لتعود مرة أخرى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ولتمر سنوات قليلة حتى يتم تقسيم الوزارة مرة اخرى الى وزارتين احداهما للعمل والثانية للشؤون الاجتماعية ليكون الشيء الوحيد الثابت فقط هو المقر الذى مازال واحدا فى نفس البرج منذ سنوات، وايضا ما يواجهه المتعاملون مع مؤسسة حمد الطبية والمجلس الاعلى للصحة بسبب تداخل الاختصاصات فيما بينهما، وكذلك ازدواج الاختصاصات بين العديد من ادارات وزارتى البلدية والبيئة مما يجعل المتعامل فى حيرة شديدة.
كل هذه الامثلة تتعلق بتضارب وازدواجية الوزارات والمؤسسات المختلفة دون التطرق الى التضارب والازدواج الادارى بين بعض الادارات فى الوزارة الواحدة الذى يجعل الموضوع بالطبع اكثر تعقيدا، ناهيك عن تعدد الجهات المتقاطعة لانهاء بعض المعاملات والذى يفاقم بلا شك المشاكل البيروقراطية ايضا، فاقامة منشأة صناعية مثلاً يتطلب الذهاب الى عدة جهات للموافقة على المشروع، حيث يتعين على صاحب المنشأة اولا التوجه الى وزارة الطاقة والصناعة للحصول على الترخيص والتى بدورها تقوم بارساله الى وزارة البيئة للكشف على الأرض ودراسة المشروع مثلما فعلت وزارة الصناعة، ثم يتوجه بعد ذلك الى وزارة الأعمال للحصول على السجل التجارى ثم وزارة البلدية للحصول على ترخيص البناء ثم يذهب اخيرا لوزارة الداخلية للحصول على قيد المنشأة.
لا شك أن الدعوة لهيكلة الوزارات ولفك الازدواج الادارى بين الجهات الحكومية سوف يؤدى الى جعل أجهزة الدولة تعمل وفق منظومة موحدة تفادياً للتداخل فى الاختصاصات والصلاحيات، ومنعاً لتشتيت الجهود خاصة فى تلك الجهات التى تتشابه وتتقاطع فى مجال أعمالها الخدمية، حيث ان هنالك مجموعة من المؤسسات قد تتشابه مسمياتها للعوام الا أنها اُنشئت لتلعب أدواراً مختلفة، لذلك فاننى ارى أن عملية اعادة هيكلة الوزارات يجب أن تهدف للوصول الى هياكل تنظيمية واضحة للجميع تغلب عليها البساطة والشفافية، وتوائم مهام الجهات الحكومية مع التخصصات الموجودة بها مع مراعاة حجم مواردها المالية والبشرية، ومدى قدرتها على تنفيذ هذه المهام بكفاءة وفاعلية عاليتين، كما أرجو أيضا أن يصاحب اعادة هيكلة الوزارات الاهتمام بالموظف القطرى الذى هو اساس التنمية، وذلك عن طريق اعادة تدريبه وتأهيله، واكسابه مهارات جديدة، ورفع معدلات الأداء والانتاجية لديه، وتزويده بالامكانات التى تساعده على أداء وظيفته بدلاً مما كان يحدث فى السابق من تحويله الى البند المركزي!!.
وفى النهاية اعود لأؤكد ان توجه سمو الامير المفدى — حفظه الله — نحو العمل على تقليل الازدواجية الادارية لهو خطوة كبيرة جدا على طريق استكمال مسيرة الانجازات والازدهار الذى تعيشه قطر اليوم، المتمثل فى تحقيق رفاهية المواطنين وتخفيف الأعباء عن كاهلهم ومعاناتهم مع الروتين والبيروقراطية والتى تحدث من جراء الازدواجية والتداخل فى الاختصاصات والصلاحيات، والذى نحن بدورنا جميعا ندعم ونقف خلف قيادتنا الرشيدة للمضى قدما فى مثل هذا النوع من التوجه المحمود والاصلاح المطلوب نحو الاتجاه الصحيح.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن نفسه بوضوح. تمرّ في زقاق العمر فتجده واقفًا، يحمل على كتفه صندوقًا ثقيلًا ويعرض بضاعة لا تشبه أي سوق عرفته من قبل. لا يصرخ مثل الباعة العاديين ولا يمد يده نحوك، لكنه يعرف أنك لن تستطيع مقاومته. في طفولتك كان يأتيك خفيفًا، كأنه يوزّع الهدايا مجانًا. يمد يده فتتساقط منها ضحكات بريئة وخطوات صغيرة ودهشة أول مرة ترى المطر. لم تكن تسأله عن السعر، لأنك لم تكن تفهم معنى الثمن. وحين كبُرت، صار أكثر استعجالًا. يقف للحظة عابرة ويفتح صندوقه فتلمع أمامك بضاعة براقة: أحلام متوهجة وصداقات جديدة وطرق كثيرة لا تنتهي. يغمرك بالخيارات حتى تنشغل بجمعها، ولا تنتبه أنه اختفى قبل أن تسأله: كم ستدوم؟ بعد ذلك، يعود إليك بهدوء، كأنه شيخ حكيم يعرف سرّك. يعرض ما لم يخطر لك أن يُباع: خسارات ودروس وحنين. يضع أمامك مرآة صغيرة، تكتشف فيها وجهًا أنهكته الأيام. عندها تدرك أن كل ما أخذته منه في السابق لم يكن بلا مقابل، وأنك دفعت ثمنه من روحك دون أن تدري. والأدهى من ذلك، أنه لا يقبل الاسترجاع. لا تستطيع أن تعيد له طفولتك ولا أن تسترد شغفك الأول. كل ما تملكه منه يصبح ملكك إلى الأبد، حتى الندم. الغريب أنه لا يظلم أحدًا. يقف عند أبواب الجميع ويعرض بضاعته نفسها على كل العابرين. لكننا نحن من نتفاوت: واحد يشتري بتهور وآخر يضيّع اللحظة في التفكير وثالث يتجاهله فيفاجأ أن السوق قد انفض. وفي النهاية، يطوي بضاعته ويمضي كما جاء، بلا وداع وبلا عودة. يتركك تتفقد ما اشتريته منه طوال الطريق، ضحكة عبرت سريعًا وحبًا ترك ندبة وحنينًا يثقل صدرك وحكاية لم تكتمل. تمشي في أثره، تفتش بين الزوايا عن أثر قدميه، لكنك لا تجد سوى تقاويم تتساقط كالأوراق اليابسة، وساعات صامتة تذكرك بأن البائع الذي غادرك لا يعود أبدًا، تمسح العرق عن جبينك وتدرك متأخرًا أنك لم تكن تتعامل مع بائع عادي، بل مع الزمن نفسه وهو يتجول في حياتك ويبيعك أيامك قطعةً قطعة حتى لا يتبقى في صندوقه سوى النهاية.
4593
| 26 سبتمبر 2025
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
4278
| 29 سبتمبر 2025
في قاعة الأمم المتحدة كان خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حفظه الله مشهدا سياسيا قلب المعادلات، الكلمة التي ألقاها سموه لم تكن خطابًا بروتوكوليًا يضاف إلى أرشيف الأمم المتحدة المكدّس، بل كانت كمن يفتح نافذة في قاعة خانقة. قطر لم تطرح نفسها كقوة تبحث عن مكان على الخريطة؛ بل كصوت يذكّر العالم أن الصِغَر في المساحة لا يعني الصِغَر في التأثير. في لحظة، تحوّل المنبر الأممي من مجرد منصة للوعود المكررة والخطابات المعلبة إلى ساحة مواجهة ناعمة: كلمات صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وضعتهم في قفص الاتهام دون أن تمنحهم شرف ذكر أسمائهم. يزورون بلادنا ويخططون لقصفها، يفاوضون وفودًا ويخططون لاغتيال أعضائها.. اللغة العربية تعرف قوة الضمير، خصوصًا الضمير المستتر الذي لا يُذكر لفظًا لكنه يُفهم معنى. في خطاب الأمير الضمير هنا مستتر كالذي يختبئ خلف الأحداث، يحرّكها في الخفاء، لكنه لا يجرؤ على الظهور علنًا. استخدام هذا الأسلوب لم يكن محض صدفة لغوية، بل ذكاء سياسي وبلاغي رفيع ؛ إذ جعل كل مستمع يربط الجملة مباشرة بالفاعل الحقيقي في ذهنه من دون أن يحتاج إلى تسميته. ذكاء سياسي ولغوي في آن واحد».... هذا الاستخدام ليس صدفة لغوية، بل استراتيجية بلاغية. في الخطاب السياسي، التسمية المباشرة قد تفتح باب الردّ والجدل، بينما ضمير الغائب يُربك الخصم أكثر لأنه يجعله يتساءل: هل يقصدني وحدي؟ أم يقصد غيري معي؟ إنّه كالسهم الذي ينطلق في القاعة فيصيب أكثر من صدر. محكمة علنية بلا أسماء: لقد حول الأمير خطابًا قصيرًا إلى محكمة علنية بلا أسماء، لكنها محكمة يعرف الجميع من هم المتهمون فيها. وهنا تتجلى العبارة الأبلغ، أن الضمير المستتر في النص كان أبلغ حضورًا من أي تصريح مباشر. العالم في مرآة قطر: في النهاية، لم يكن ضمير المستتر في خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله - مجرد أداة لغوية؛ بل كان سلاحًا سياسيًا صامتًا، أشد وقعًا من الضجيج. لقد أجبر العالم على أن يرى نفسه في مرآة قطر. وما بين الغياب والحضور، تجلت الحقيقة أن القيمة تُقاس بجرأة الموقف لا باتساع الأرض، وأن الكلمة حين تُصاغ بذكاء قادرة على أن تهز أركان السياسات الدولية كما تعجز عنها جيوش كاملة. فالمخاطَب يكتشف أن المرآة وُضعت أمامه من دون أن يُذكر اسمه. تلك هي براعة السياسة: أن تُدين خصمك من دون أن تمنحه شرف الذكر.
4095
| 25 سبتمبر 2025