رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
نجحت القوى الأمنية التونسية في منع حدوث تفجيرين كبيرين يوم الأربعاء 30 أكتوبر 2013، الأول بمدينة سوسة السياحية التي تبعد 140 كيلومترا عن العاصمة، حين حاول الإرهابي المدعو أحمد العيادي وهو من منطقة الزهروني ومن مواليد 1992 وينتمي للتيار السلفي المتشدد وكان يقاتل في سوريا قبل أن يعود إلى تونس، أن يدخل في البداية "فندق رياض بالم" في سوسة وفي يده حقيبة، لكن دورية أمنية تابعة لإقليم الأمن الوطني بسوسة تفطنت إليه، وبمحاصرته وتضييق الخناق عليه بالتعاون مع أعوان حراسة بالنزل لاذ بالفرار وأقدم على تفجير نفسه في الشاطئ. ولم يصب أحد بأذى، فيما ذكرت مصادر أمنية أنه جرى رصد فرار شخصين آخرين. والثاني، حين حاول تنفيذ اعتداء على ضريح الرئيس الأسبق للجمهورية التونسية ومؤسسها الحبيب بورقيبة (1956-1987)، في بلدة المنستير الساحلية التي تبعد 20 كيلومترا عن مدينة سوسة. وفي تفاصيل عملية المنستير، قال المتحدث الرسمي باسم "نقابة الأمن الرئاسي" هشام الغربي، في حديث إذاعي، إنّ "الشخص الذي حاول القيام بالعملية.. والذي تم القبض عليه، يدعى أيمن السعدي بن رشيد يبلغ من العمر 18 عاماً وهو من ولاية زغوان من ذوي السوابق العدلية وصدرت بحقه أربع بطاقات تفتيش ويحمل في بطاقة التعريف الوطنية صفة تلميذ".
وفيما لم تتبن أي جهة العمليتين، فإن الناطق الرسمي لوزارة الداخلية محمد علي العروي، أقر أن إرهابيي سوسة والمنستير ينتمون إلى تنظيم" أنصار الشريعة" الذي تم تصنيفه مؤخرا كتنظيم إرهابي. ورفض محمد علي العروي في مداخلة هاتفية عبر إذاعة شمس إف إم الإفصاح عن المواقع والجهات والمؤسسات التي يُمكن استهدافها من قبل الإرهابيين وذلك لسرية الأبحاث. وأكد العروي أن بعض العناصر الإرهابية لا تزال محل ملاحقة. وتحدث محمد علي العروي على ضرورة تضافر الجهود والإمكانات بين جميع الوحدات الأمنية والمواطن التونسي الذي يمكنه لعب دور في هذه الأوضاع وذلك بالإبلاغ عن كل شيء مشبوه. يُذكر أن وزارة الداخلية كانت أعلنت مساء اليوم أن الوحدات الأمنية تمكنت من القبض على 5 عناصر إرهابية على علاقة بإرهابيي سوسة والمنستير.
وشكلت المحاولتان الإرهابيتان سابقة في تونس، إذ إن تنظيم " أنصار الشريعة" اقتصرت عملياته الإرهابية منذ سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي، على استهداف رموز المعارضة اليسارية والقومية (اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي)، وعناصر الأمن الوطني، والحرس الوطني (الدرك) والجيش ونصب مكامن لها. وكانت تونس شهدت آخر عمليتي تفجير في محافظتي سوسة والمنستير عام 1986، ما أدى إلى سقوط عشرات الجرحى من التونسيين والسياح الأجانب.
وتشهد تونس منذ مقتل عنصرين من الحرس الوطني (الدرك) في قرية قبلاط التابعة لمحافظة باجة، ومقتل ستة عناصر من الحرس الوطني في قرية سيدي علي بن عون وبئر الحفي التابعة لمحافظة سيدي بوززيد، تصاعداً ملحوظاً في العمليات الإرهابية التي يقودها تنظيم " أنصار الشريعة"، حيث يرى المراقبون المتابعون لقضايا الإرهاب، أن استعمال تقنية التفجيرين المتزامنين في مدينتين متلاصقتين هو من خصائص العمليات التي تنفذها التنظيمات الجهادية في أنحاء العالم، لاسيَّما تنظيم " القاعدة"مثلما حصل في تفجيرات نيروبي ودار السلام التي استهدفت سفارتين للولايات المتحدة بالإضافة إلى عمليات مشابهة في سورية والعراق. ويخشى هؤلاء المراقبون أن تشهد المدن الأخرى التونسية عمليات تفجير، لاسيَّما أن سوسة والمنستير من المدن السياحية التي تتسم بوجود أمني مكثف.
لا شك أن تنظيم "أنصار الشريعة" الذي يقوده أبو عياض التونسي (سيف الله بن حسين)، الذي سبق أن عاش في بريطانيا في تسعينيات القرن الماضي ونشط ضمن مجموعة الشيخ أبو قتادة الفلسطيني قبل أن "يهاجر" إلى أفغانستان ليعيش هناك خلال حكم حركة "طالبان" حيث التقى بأسامة بن لادن في قندهار عام 2000، وشارك أيضاً في تأسيس جماعة تونسية جهادية (الجماعة المقاتلة التونسية) عام 2000، وكان متورطاً في استقدام شابين تونسيين من بلجيكيا لتنظيم "القاعدة" نفذا عملية اغتيال أحمد شاه مسعود قبل يومين من هجمات 11 سبتمبر 2001، وفرّ من أفغانستان بعد الغزو الأمريكي الذي أطاح حكم "طالبان" وأخرج "القاعدة" منها، لكنه اعتُقل لدى اختفائه في تركيا عام 2003 وسلّم إلى نظام ابن علي الذي سجنه - مؤبداً - بتهم الضلوع في الإرهاب والانتماء إلى "القاعدة"، عمل منذ تمتعه بالعفو التشريعي العام مع كثير من السجناء الآخرين عقب سقوط نظام ابن علي في 2011، على تأسيس تنظيم إرهابي "أنصار الشريعة"مرتبط بتنظيم " القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي " الذي يقوده الجزائري عبد المالك دروكدال (أبو مصعب عبد الودود)، حيث أثبتت العمليات الإرهابية التي شهدتها المناطق الحدودية التونسية –الجزائرية، لاسيَّما في جبل الشعانبي منذ نهاية العام 2012، وطيلة عام 2013، بأن قادة "تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي" أقاموا علاقة وثيقة مع "أبي عياض التونسي" وقادة جماعته. ورغم أن مصادر أمنية تونسية تحدثت في أكثر من مناسبة عن أدلة على أن مجموعة أبو عياض تتبع فرع القاعدة المغاربي، إلا أن "أنصار الشريعة" قالت في أكثر من مناسبة أنها ليست جزءاً من مجموعة خارجية.
عبرّ تنظيم "أنصار الشريعة" عن نفسه بسلسلة من العمليات الإرهابية، بدأت بأحداث السفارة الأمريكية في 14سبتمبر 2012، والتي جسدت عملية التحول النوعي في الصدام بين تنظيم " أنصار الشريعة" وحكم حركة النهضة الإسلامية، ثم عملية اغتيال الشهيد شكري بلعيد في 6 فبراير 2013، والمواجهة العسكرية بين عناصر هذا التنظيم والجيش التونسي، والذي سقط خلالها أكثر من عشرين شهيدا في صفوف الجيش، وعملية اغتيال محمد البراهمي في 25يوليو الماضي. واستفاد تنظيم "أنصار الشريعة" من سقوط نظام القذافي في سبتمبر 2011، إذ أصبح الجهاديون التونسيون يتدربون في المعسكرات الليبية على مختلف أنواع الأسلحة في ظل غياب الدولة الليبية، ونال أبو عياض حصته من ترسانة الأسلحة الليبية التي باتت متاحة لمن يملك المال ليشتريها بأرخص الأثمان، وفي حالة زعيم "أنصار الشريعة" أبو عياض، فقد حصل على الأسلحة الليبية مجاناً كمكافأة على وقوف الجهاديين التونسيين إلى جانب إخوانهم الليبيين الذين يريدون أن يردوا لهم جميلهم خلال الثورة، إضافة إلى أن الجهاديين التونسيين الذين تخرجوا من معسكرات التدريب الليبية، توجهوا فيما بعد إلى سوريا بالعشرات - إن لم يكن بالمئات - لقتال النظام في سوريا ضمن صفوف جماعات مرتبطة بـ"القاعدة" كتنظيم "دولة العراق والشام الإسلامية – داعش " و"جبهة النصرة"، رغم أن التونسيين تلقوا هزيمة مدوية على أرض سوريا، إذ بلغ عدد القتلى في صفوفهم مما يقارب 1920 قتيلاً.
وفي ظل الهزائم التي تتلقاها التنظيمات الإرهابية المرتبطة بالقاعدة وأخواتها سوريا، طالب قائد تنظيم " أنصار الشريعة" أبوعياض بوقف إرسال الشباب التونسي إلى سوريا لأن القاعدة بحاجة لهم في تونس. ويقول مصدر إسلامي مطلع عن النقاشات التي دارت بين أبو عياض والجهاديين في معسكرات ليبيا إن تونس أحق بهؤلاء المقاتلين لأن ذهابهم يعني إخلاء الساحة لـ"العلمانيين". وبذلك أصبح أبو عياض يدعو "الجهاديين" التونسيين إلى البقاء لـ"الجهاد" في تونس لأنها "أولى" بهم من مناطق أخرى، للقيام بعمليات إرهابية تربك الوضع السياسي في تونس.
وتأتي العمليتان الإرهابيتان في كل من سوسة والمنستير، في توقيت دخلت فيه تونس جدياً في الحرب على الإرهاب، بعد خمسة أيام على صدور قرار رئاسي باستحداث منطقة عمليات عسكرية في محافظة سيدي بوزيد، حيث شن الجيش التونسي يوم الثلاثاء 29 أكتوبر 2013، عملية عسكرية واسعة استخدمت خلالها الدبابات والمروحيات ضد معاقل الإرهابيين الذين فروا إلى جبال المحافظة الواقعة وسط البلاد. وقال الرئيس التونسي منصف المرزوقي، لدى إشرافه على ندوة دولية مخصّصة لمناقشة مشروع لقانون مكافحة الإرهاب في تونس، إن "الإرهاب حرب مفروضة علينا تستهدف المسار الديمقراطي في تونس"، مشيراً إلى أن "قوة إرهابية في تونس قد تكون وراءها أيادٍ غير محليّة تسعى إلى ضرب المسار السلمي للانتقال الديمقراطي".
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
4569
| 29 سبتمبر 2025
في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه، حركاته، وحتى ضحكاته المقتضبة لم تكن مجرد تفاصيل عابرة؛ بل كانت رسائل غير منطوقة تكشف عن قلق داخلي وتناقض صارخ بين ما يقوله وما يحاول إخفاءه. نظراته: قبل أن يبدأ حديثه، كانت عيونه تتجه نحو السلم، وكأنها تبحث عن شيء غير موجود. في لغة الجسد، النظرات المتكررة إلى الأرض أو الممرات تعكس قلقًا داخليًا وشعورًا بعدم الأمان. بدا وكأنه يراقب طريق الخروج أكثر مما يراقب الحضور، وكأن المنصة بالنسبة له فخّ، والسلم هو طوق النجاة. يداه: حين وقف أمام المنصة، شدّ يديه الاثنتين على جانبي البوديوم بشكل لافت إشارة إلى أن المتحدث يحتاج إلى شيء ملموس يستند إليه ليتجنب الارتباك، فالرجل الذي يقدّم نفسه دائمًا بصورة القوي الصلب، بدا كمن يتمسك بحاجز خشبي ليمنع ارتعاشة داخلية من الانكشاف. ضحكاته: استهل خطابه بإشارات إلى أحداث جانبية وبمحاولة لإضحاك الجمهور حيث بدا مفتعلًا ومشحونًا بالتوتر. كان الضحك أقرب إلى قناع يوضع على وجه مرتبك، قناع يحاول إخفاء ما لا يريد أن يظهر: الخوف من فقدان السيطرة، وربما الخوف من الأسئلة التي تطارده خارج القاعة أكثر مما يواجهه داخلها. عيناه ورأسه: خلال أجزاء من خطابه، حاول أن يُغلق عينيه لثوانٍ بينما يتحدث، ويميل رأسه قليلاً إلى الجانب ويعكس ذلك رغبة لا واعية في إبعاد ما يراه أو ما يقوله، وكأن المتحدث يحاول أن يتجنب مواجهة الحقيقة. أما مَيل الرأس، فكان إشارة إلى محاولة الاحتماء، أو البحث عن زاوية أكثر راحة نفسيًا وسط ارتباك داخلي. بدا وكأنه يتحدث إلى نفسه أكثر مما يخاطب العالم. مفرداته: استدعاؤه أمجاد الماضي، وتحدثه عن إخماد الحروب أعطى انطباعًا بأنه لا يتقن سوى لغة الحروب، سواء في إشعالها أو في إخمادها. رجل يحاول أن يتزين بإنجازات الحرب، في زمن يبحث فيه العالم عن من يصنع السلم. قناعه: لم يكن يتحدث بلسانه فقط؛ بل بجسده أيضًا حيث بدا وكأنه محاولة لإعادة ارتداء قناع «الرجل الواثق» لكن لغة جسده فضحته، كلها بدت وكأنها تقول: «الوضع ليس تحت السيطرة». القناع هنا لم يخفِ الحقيقة بل كشف هشاشته أكثر. مخاوفه: لعلها المخاوف من فقدان تأثيره الدولي، أو من محاكم الداخل التي تطارده، أو حتى من نظرات الحلفاء الذين اعتادوا سماع خطاباته النارية لكنهم اليوم يرون أمامهم رجلاً متردداً. لم نره أجبن من هذا الموقف، إذ بدا أنه في مواجهة نفسه أكثر من مواجهة الآخرين. في النهاية، ما قدّمه لم يكن خطابًا سياسيًا بقدر ما كان درسًا في لغة الجسد. الكلمات قد تخدع، لكن الجسد يفضح.
3396
| 29 سبتمبر 2025
بعض الجراح تُنسي غيرها، ليس بالضرورة أن تكون أعمق، لكن الوجدان لا يتحمل كل هذه الأوجاع. في الوقت الذي نقف في قلب الحسرة ونحن نطالع ذلك الجرح النازف في غزة دون أن نستطيع إيقاف نزفه، يتملكنا الشعور أحيانًا بأنها المأساة الوحيدة في أمتنا وذلك من فرط هولها وشدتها، ويسقط منا سهوًا الالتفات إلى مصائبها الأخرى، تأتي أزمة السودان في صدارة هذه المآسي. أوجاع السودان كثيرة ومتعددة، كلها بحاجة لأن تكون حاضرة دائما في الوجدان العربي الإسلامي، لكن أولاها في الوقت الراهن مأساة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، التي تخضع منذ العاشر من يونيو/حزيران 2024 لحصار خانق فرضته قوات الدعم السريع للضغط على الجيش الوطني السوداني. سكان مدينة الفاشر يفتك بهم الجوع والقصف المدفعي اليومي الذي يحول دون دخول المساعدات الإنسانية، في ظل ضعف التعاطي العربي مع القضية وتجاهل دولي تام لهذه المأساة، على الرغم من أنها تقترب من الإدراج في صفحات الإبادة الجماعية. قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) التي تحاصر الفاشر، تسيطر على أربع ولايات من أصل خمس ولايات في إقليم دارفور، لذا تقصف بوحشية مدينة الفاشر عاصمة الولاية الخامسة (شمال دارفور)، التي تمثل أكثر من نصف مساحة الإقليم وتعادل حوالي 12 بالمائة من مساحة السودان، وذلك بهدف إتمام السيطرة على الإقليم بأسره. إضافة إلى الوضع الكارثي للمدنيين في الفاشر بسبب الحصار والقصف الهمجي، ينذر سقوط الفاشر ووقوعها بقبضة ميلشيات الدعم السريع، بكارثة عظمى للسودان بشكل عام. الفاشر ليست مدينة عادية في أهميتها، فهي مفتاح السيطرة على مساحات إستراتيجية واسعة تصل إلى حدود تشاد وليبيا، وهي كذلك تقع على الطرق المؤدية بين شرق وغرب السودان، بما يعني أن سيطرة قوات الدعم عليها سيحول دون قيام دولة مركزية، وفرض واقع عسكري يتحكم في جغرافيا المنطقة، إضافة إلى أن السيطرة عليها ستؤمن لقوات الدعم ممرات تهريب الأسلحة. سيطرة قوات حميدتي على الفاشر يؤمن لها كذلك خطوط الإمداد ويقوي شوكتها ويجعل الولاية مركزا لمهاجمة الولايات الأخرى والسيطرة على المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش السوداني. لذا نستطيع الجزم، بأن الفاشر هي آخر الخطوط الفاصلة بين سودان موحد وسودان مجزأ، ولن يكون مجرد سقوط مدينة، بل انهيار وحدة الدولة السودانية، والذي سيتحول إلى شمال مركزي تحت سيطرة الجيش، وغرب تحت سلطة الميلشيات، وشرق تتجاذبه الانقسامات والنزعات القبلية، وجنوب منهك مهمش. إذا سقطت الفاشر، فإن الخطورة ستتجاوز حينئذ القتال بين الجيش وميليشيات الدعم، فمن أخطر تداعيات سقوط الفاشر – لا قدر الله - انفجار الصراع الإثني في السودان الذي يكتظ بالتنوع الإثني والقبائل المسلحة مختلفة الولاءات، لأن هذا البلد يرقد على بركان تسليح الهوية، وفي هذه الحال سيمتد الصراع الإثني بلا شك إلى الدول المجاورة. الدول العربية، والدول المحيطة بالسودان وعلى رأسها مصر، منوطة بالعمل الفوري الجاد على منع سقوط الفاشر والذي يعني تفتيت وحدة السودان وما له من تداعيات على الجوار، وذلك عبر مسارين، الأول هو كسر هذا الحصار على المدينة وإدخال المساعدات، والثاني تقدم الدعم العسكري واللوجستي للجيش السوداني المنهك لفرض سيطرته التامة على ولاية شمال دارفور ومنع سقوطها في أيدي حميدتي، والضغط كذلك على الدول والجهات التي تدعم ميلشيات الدعم السريع المتمردة. وعلى المستوى الشعبي، يتعين على نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي وضع مأساة الفاشر والملف السوداني بشكل عام في بؤرة الاهتمام، وتسليط الضوء على الأحوال الكارثية التي يعانيها أهل المدينة، وأهميتها الإستراتيجية وخطورة سقوطها في أيدي قوات الدعم على وحدة السودان، لتكوين رأي عام عربي ضاغط على الأنظمة والحكومات العربية لسرعة التدخل، إضافة إلى لفت أنظار الشعوب الغربية إلى هذه المأساة لإحراج حكوماتها والعمل على التدخل الفوري لإدخال المساعدات الإنسانية.
1356
| 28 سبتمبر 2025