رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تتناول نقاشاتنا وأحاديثنا الروتينية في كثير من الأحيان اتهامات أو ادعاءات موجهة في الغالب إلى حكومات العالم العربي، تتعلق بتقدير الكادر الأجنبي من ذوي العيون الزرقاء، بحسب ما يصفهم البعض، وتفضيلهم على الكادر الوطني والانبهار بهم، في إشارة - على الأغلب - إلى الأوروبيين والأمريكان تحديداً ولأصحاب الثقافة الانجلو ساكسونية بشكل عام.
في الواقع فإن تلك العقدة وما يسفر عنها من تفضيل لا تقتصر على الأنظمة السياسية والحكومات، بل باتت متأصلة في الخيال الجمعي لكثير من أفراد وشعوب المجتمع العربي والشرق الأوسط بشكل عام.
وفي محاولة لفهم هذه الظاهرة دائما ما تتم الإحالة إلى ما سطره ابن خلدون في مقدمته من "أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده".
في هذا المقال لن يكون حديثنا عن هذه الظاهرة من حيث صحتها أو خطئها، فالثقافة الغربية والحضارة الصناعية هي المهيمنة على أرض الواقع، ولا مناص لدولة تريد أن تنهض وتتقدم من تلمس خطى الغرب شئنا أم أبينا، فالصين واليابان وكوريا وسنغافورة لم تنشغل بكيفية اختراع العجلة لكي تلحق بركب الحضارة! ولا يمكن لدولة من الدول مهما كانت عزيمتها وإصرارها أن تبدأ من الصفر لمواكبة ما وصلت له الحضارة الصناعية، بل لا بد من البناء على تجارب الآخرين، بدل التغني بماضي الأسلاف واستحضار الأمجاد الغابرة بالقول "يوم كنا ولا تسل كيف كنا".
إن السؤال المهم هنا يتمحور حول ماهيّة التقليد الذي من شأنه أن يزج بنا في ركب الحضارة، وما المقصود بالتقليد المفيد لدى الغرب وتجنب التقليد "الأعمى"؟ هل علينا تقليد مشيتهم والاستماع لأغانيهم والتخاطب بلغتهم مع بعضنا البعض؟ أم نكتفي باقتباس كيفية تنسيق الزهور أمام فناء منزلنا؟ فنكون ظفرنا بالمفيد منهم! وعلى الرغم من أن السؤال يبدو بسيطا في ظاهره، إلا أننا لم نجب عليه واقعيا بعد، فلا زلنا نتخبط وننتقد الانبهار بالغرب في حين أننا غارقون في التقليد دون أن يقدم لنا ذلك التقليد أي دفعة إلى الأمام، فلغتنا أصبحت لغتهم وأشكالنا قاربت أو كادت أن تكون مثلهم، وتراثنا وثقافتنا أصبحت بحاجة للإنعاش والمثابرة لتبقى بارزة على السطح دون أن تغرق جراء ملاطمة أمواج الحضارة الغربية الفاتنة.
إننا عندما نستورد منتجاً حضارياً من الغرب أو الشرق على حد سواء، فإن ذلك لا يعد بأي شكل من الأشكال دليلاً على تحضرنا، وهو ما نصبو إليه دائماً. كما أننا عندما نؤسس لشراكات مع الدول الصناعية لإنشاء مصنع في أوطاننا يقوم بتشغيله والعمل فيه وإدارته عناصر خارجية برؤوس أموالنا، فإن ذلك لا يعني أننا أصبحنا دولاً صناعية بتلك البساطة، ولن يقدم لنا ذلك المصنع في الغالب - باستثناء الانبعاثات الكربونية - سوى القليل.
إن استخدام الهاتف الذكي أو الكمبيوتر أو قيادة سيارة فارهة وغيرها من منتجات الحضارة لا يعني أننا طرقنا سبل التحضر، ومن دون النظر للخلفية التاريخية والمعرفية لتلك المنتجات لن نعدو كوننا مستخدمين سذجا لها، علينا أن نسأل أنفسنا قبل كل شيء وقبل الانشغال بطرح التساؤل المتعلق بالتقليد، كيف انبثقت الحضارة الغربية؟ وكيف استطاع الغرب أن يحقق هذا التفوق بالرغم من وجود حضارات متقدمة ومتطورة سادت ثم بادت إلا أننا ما زلنا حتى الآن على الاقل، ننعم بما تقدمه لنا الحضارة الغربية، وهي من استطاعت، بحسب معلوماتنا الحالية على الاقل، أن تصنع فارقا ونقلة نوعية في مسيرتنا التاريخية.
وبالرغم من أننا في عصر المعرفة وانكشاف أسرار التقدم، وتوفر المعلومة والمعرفة العلمية وتمكّن أيا كان من الاطلاع والاستزادة من كافة أشكالها، بدءا من كيفية صناعة الطائرة وتخصيب اليورانيوم إلى صناعة المايكرويف وغلاية المياه، جميعها موجودة وفي متناول أيدينا متى أردنا ذلك، وهي بالمناسبة في تطور وتراكم مستمرين لا يتوقفان، إلا أننا لم نقدح بعد شرارة التقدم. وحتى مع التحجج بوجود استثناءات بسيطة ومعوقات موجودة فعلا أمام الاستفادة من المعرفة وتوظيفها، منها الطغيان الاقتصادي والسياسي وسيطرة الشركات متعددة الجنسيات، إلا أن ذلك ليس الحائل والعقبة الوحيدة أمام تقدم الأمم.
وبالعودة إلى السؤال عن الظروف الموضوعية لانبثاق الحضارة الغربية، نجد أغلب المؤرخين يتفقون على أن شرارتها انطلقت بالثورة الكوبرنيكية، والتي بها أفل نجم حقبة العصور الوسطى، وسطعت شمس عصر الحداثة، فالثورة الكوبرنيكية، بحسب موسوعة ويكيبيديا "هو مصطلح يشير إلى الثورة على النظرية المعروفة بنموذج مركز الأرض التي كانت تقوم على فكرة أن الأرض هي مركز المجرة، بزعم كوبرنيكوس أن الشمس مركز النظام الشمسي. كانت تلك النظرية نواة لثورة علمية في القرن السادس عشر الميلادي".
إذا كيف لقضية مركزية الأرض أن تقود إلى ثورة علمية؟ وما تأثير تلك القضية على صناعة الطائرة والسيارة والهاتف الذكي والكمبيوتر؟ خصوصا إذا ما علمنا أن كثيرا من تلك الاكتشافات والنظريات الثورية في حينها، جرى التعديل عليها لاحقا، أو أن بعضها تبين خطؤه من الأساس؟ وفي كل الأحوال فإن تلك المعارف لا تقدم أي فائدة تذكر للحقل العلمي في وقتنا الراهن، وهل لو أنك أخبرت أحدهم بأن الأرض ليست مركز المجرة وأن الشمس هي مركز مجموعتنا الشمسية سيتمكن من صناعة جهاز أو برمجة حاسوب؟ ولكن رغم ذلك شكلت تلك الحقيقة شرارة التقدم للغرب، كيف؟
إن ما قدمته الثورة الكوبرنيكية هو التغيير الجذري لنمط وآلية التفكير، ورغم أن نظريات كوبرنيكوس لم تتبلور إلا بعد مائتي عام من النزاع والشك والجدل، حتى توالت الاكتشافات إلى أن جاء جاليليو مؤكدا لنظريات كوبرنيكوس الأمر الذي تسبب في تقديمه لمحاكم التفتيش واتهامه بالهرطقة ومحاولة ثنيه بسلطة الكنيسة، إلا أن شرارة المعرفة انطلقت ولا يمكن إيقافها، كما حقق الأوروبيون في عصر الحداثة تقدما ونقلة كبيرة بالعودة والاستزادة من المعارف الكلاسيكية التي سطرتها الفلسفة الإغريقية وتناولت قضايا كبيرة ومهمة في علم الوجود ونظرية المعرفة والأخلاق وعلوم المنطق والرياضيات.
وفي حين يحتج البعض بأن الطريق الذي سلكه الأوروبيون نحو مصادر المعرفة مر بكتب الفلاسفة العرب والمسلمين وترجماتهم للمعارف الإغريقية التي تمت خلال العصر العباسي وأنهم استفادوا منها أيّما استفادة، كما شكلت لهم خريطة لاكتشاف الفلسفة الإغريقية، والذي يعتبرها البعض سرقة ونهوضا على أكتاف الآخرين، إلا أننا لم نسأل أنفسنا قبل ذلك، أليست المعارف في عصرنا الحالي وكما أسلفنا مطروحة ووافرة للجميع؟ لماذا لم "نسرق" منها - إن صح التعبير- ونقوم بتوظيفها والخروج من دائرتنا المغلقة؟.
ثم أليست كتب الفلاسفة العرب جاءت ضمن سياق أوسع وحركة أشمل من الترجمة ونقل لمعارف وعلوم الآخرين، كما أننا ننسى أو نتناسى أن العلم والمعرفة ليسا حكراً أو رمزيات نتفاخر بها أو شهادات نعلقها على الجدران دون أن نعمل بها، فالمعارف والعلوم تتناقلها الحضارات والأمم والشعوب، ومن التجني اعتبار تلك الحركة الطبيعية بمثابة "سرقة". والسؤال الأهم هو: كيف استفدنا نحن من تلك المعارف قبل أن يظفر بها الغرب؟ وكيف تعاملنا مع الفلسفة عبر العصور؟ ألم يتعرض الفلاسفة المسلمون تاريخيا لما يشبه محاكم التفتيش الفكرية؟ والتي هي مستمرة إلى الآن بالمناسبة.
إن القضية تتمحور حول طريقة التفكير والتعامل مع المعرفة، وعلينا هنا أن نسأل أنفسنا بموضوعية.. هل تجاوزنا المرحلة البدائية في طرق التفكير والتعامل مع المعلومة؟ بل والأهم من ذلك كيف تعاملنا ولا زلنا مع أصحاب الفكر وأصحاب الرأي الصادم لأفكار المجتمع برؤية جديدة لم يألفها، ألسنا مستمرين في طرح التساؤل الدائم حول جدوى الأبحاث التي تجريها الجامعات العريقة ومراكز الأبحاث حول العالم، ونسخر من أهمية المعرفة في حد ذاتها ونتساءل ماذا سيفيد إن اكتشفنا هذا العنصر أو ذاك، ونربط الأبحاث والاكتشافات بالتطبيقات العملية ونتساءل. ماذا سنتسفيد من تلك الاكتشافات؟ وكأننا نضع العربة أمام الحصان! كما أننا نربط مخرجات التعليم بسوق العمل وكأن العلم والمعرفة مقتصران على الوظيفة.
إن طريقة التفكير وطريقة التعامل مع المعارف أهم بكثير من المعلومة بحد ذاتها، والشغف بالمعرفة لا يجب أن يتم ربطه بالتطبيقات العملية لتلك المعرفة، فلو أن الأمر كان كذلك لما توصلنا لأي من مظاهر التقدم والتكنولوجيا التي بحوزتنا الآن، فالشغف بالمعرفة هو الذي قاد إلى اكتشاف الكهرباء، وليس الرغبة في اقتناء غسالة الصحون!.
يقول العالم الفلكي الشهير كارل ساغان، "العلم هو طريقة تفكير أكثر بكثير من كونه مجموعة من المعارف".
اذا فالقضية ليست متعلقة بالمحاكاة والتقليد سواء كان تقليدا أعمى أم تقليدا مفيدا، إن المسألة أعمق من ذلك وهي متعلقة بالنظر إلى الآلية التي حققت قفزة نوعية وتجاوزت أطر التفكير والتعامل مع المعلومة، ونقلت الإنسان من التفكير الخرافي الأسطوري إلى التفكير المنطقي والعلمي، ومن محاكمة الفكر والحفاظ على النمط السائد إلى الانفتاح الفكري الذي قاد بدوره إلى حزمة أشمل من تقبل الآراء والمسائل المتعلقة بحرية الفكر وحقوق الإنسان، ونحن أمام ذلك لسنا بحاجة إلى طرح مسألة التقليد على طاولة الحوار بل الأجدر بنا وبناء على ما سبق النظر في صياغة إطار جديد للقضية يتعلق بمحاكمة أنماط التفكير وتفعيل المنهج العلمي في التعامل مع المعارف.
ومع الأخذ بالاعتبار مشروعية الحجج المتعلقة بقصور المنهج العلمي والتفكير المنطقي في التوصل إلى الحقائق والمعارف، فالعلم حتى هذه اللحظة وبالرغم مما يقدمه لنا من أدوات حققت للبشرية قفزات نوعية هائلة، إلا أن القصور الذي يكتنف وظيفة العلم في شرح الظواهر وحل المشكلات لا زال قائما، فالعلم يقدم شرحا للظواهر ولا يخبرنا على وجه الدقة ما هي، كما أن العلم لا يقدم لنا ضمانات على مدى صحة النظرية والتفسير، وهذا بالمناسبة مصدر قوة العلم، فالعلم يشرح الكهرباء والجاذبية، إلا انه لا يخبرنا ما هي! كما أن العلم لا يجزم بالعلاقات السببية بين الظواهر وهو ما يزيد تواضعنا ويكشف لنا جليا بأننا لا زلنا في أول الطريق.
والقضية الأخيرة تعد سببا أساسيا في رفض المنهج العلمي لدى الكثير والاستعاضة عنه بالثوابت المعرفية القديمة التي تجزم بصحة التفسير مكتسية رداء التقديس، إلا أن ذلك يعد سببا من أسباب عدم النهوض وتجاوز الإشكاليات، وفي هذا السياق يقول كارل ساغان "العلم بعيد عن كونه أداة العلم المثالية، لكنه أفضل ما لدينا، في هذا الصدد وكما هو الحال مع الكثير، فإنه يشبه الديمقراطية". وهو ما يشي بأننا على أعتاب ثورة أخرى تتجاوز الأدوات العلمية المحدودة التي بحوزتنا، ولكن يظل الفكر المستنير هو الفيصل في تحقيق تلك القفزة.
لماذا تكتب؟..
من أكثر الأسئلة التي توجه لي في حواراتي الثقافية، أو توجه إلى غيري من الكتاب، هو لماذا تكتب؟.... اقرأ المزيد
186
| 30 أكتوبر 2025
الإزعاج الصوتي.. تعدٍ على الهدوء والهوية
في السنوات الأخيرة، أصبحت الأغاني تصدح في كل مكان نذهب إليه تقريبًا؛ في المطاعم والمقاهي والفنادق والأندية الرياضية،... اقرأ المزيد
441
| 30 أكتوبر 2025
وجوه صامتة
• ما معنى أن يعم الهدوء كل الأرجاء والوجوه؟ وما معنى ان تصادف إنسانا يلتزم الصمت في معظم... اقرأ المزيد
276
| 30 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية



مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6621
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6483
| 24 أكتوبر 2025
تُخلّف بعض اللحظات أثرًا لا يُمحى، لأنها تزرع في القلب وجعًا عميقًا يصعب نسيانه.. في الجولة الثالثة من دوري أبطال آسيا للنخبة، كانت الصفعة مدوية! الغرافة تلقى هزيمة ثقيلة برباعية أمام الأهلي السعودي، دون أي رد فعل يُذكر. ثم جاء الدور على الدحيل، الذي سقط أمام الوحدة الإماراتي بنتيجة ٣-١، ليظهر الفريق وكأنه تائه، بلا هوية. وأخيرًا، السد ينهار أمام الهلال السعودي بنفس النتيجة، في مشهد يوجع القلب قبل العين. الأداء كان مخيبًا بكل ما تحمله الكلمة من وجع. لا روح، لا قتال، لا التزام داخل المستطيل الأخضر. اللاعبون المحترفون الذين تُصرف عليهم الملايين كانوا مجرد ظلال تتحرك بلا هدف و لا حس، ولا بصمة، ولا وعي! أما الأجهزة الفنية، فبدت عاجزة عن قراءة مجريات المباريات أو توظيف اللاعبين بما يناسب قدراتهم. لاعبون يملكون قدرات هائلة ولكن يُزج بهم في أدوار تُطفئ طاقتهم وتشل حركتهم داخل المستطيل الأخضر، وكأنهم لا يُعرفون إلا بالاسم فقط، أما الموهبة فمدفونة تحت قرارات فنية عقيمة. ما جرى لا يُحتمل. نحن لا نتحدث عن مباراة أو جولة، بل عن انهيار في الروح، وتلاشي في الغيرة، وكأن القميص لم يعد له وزن ولا معنى. كم كنا ننتظر من لاعبينا أن يقاتلوا، أن يردّوا الاعتبار، أن يُسكتوا كل من شكك فيهم، لكنهم خذلونا، بصمت قاسٍ وأداء بارد لا يشبه ألوان الوطن. نملك أدوات النجاح: المواهب موجودة، البنية التحتية متقدمة، والدعم لا حدود له. ما ينقصنا هو استحضار الوعي بالمسؤولية، الالتزام الكامل، والقدرة على التكيّف الذهني والبدني مع حجم التحديات. نحن لا نفقد الأمل، بل نطالب بأن نرى بشكل مختلف، أن يعود اللاعبون إلى جوهرهم الحقيقي، ويستشعروا معنى التمثيل القاري بما يحمله من شرف وواجب. لا نحتاج استعراضًا، بل احترافًا ناضجًا يليق باسم قطر، وبثقافة رياضية تعرف كيف تنهض من العثرات لتعود أقوى. آخر الكلام: هذه الجولة ليست سوى بداية لإشراقة جديدة، وحان الوقت لنصنع مجدًا يستحقه وطننا، ويظل محفورًا في ذاكرته للأجيال القادمة.
3252
| 23 أكتوبر 2025