رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
(1)
ينطلق العالم أجمع في سباق الألفية الجديدة بشكل صاروخي - ونحن في بدايات عقدها الثالث - نحو العلم والمعرفة، وإذابة الحواجز، والاستثمار الأمثل للموارد المتاحة، وفي أثناء هذا الانطلاق المتسارع قد تندثر هُويات متعددة، وتتشكَّل هُويات جديدة أقل ارتباطاً بأصولها لتتماهى (أو على الأقل تتماشى) والواقعَ الـمَعيش في زمان "الانفجار الحضاري العظيم".
والتغيير سُنَّة كونية خلق عليها الله تعالى الخلق، ووقفنا على كثير من ملامحها من خلال دراسة التاريخ البشري وما مر به من مراحل ازدهار وانحدار، ولعلنا نعيش في هذه الألفية أرقى مراحل الحضارة الإنسانية بما توصل إليه العلم والتكنولوجيا من إنجازات باهرة تكاد لا تُتصوَّر قبل عشر سنين مضت.
وهذه السُنَّة التغييرية قد تجعل البعض يتصور أن العالم أجمع ينبغي أن يذوب في هذه البوتقة الحضارية الضخمة، إلا أننا - عرباً ومسلمين - لدينا هُوية خاصة تبلورت عبر تعاليم ديننا الحنيف، وصُقلت على يد سيد البشرية ونبيها محمد صلى الله عليه وسلم؛ فالعنصر الذي شكَّل هُويتنا وحاطها في آنٍ معاً، بعد الدين الإسلامي وأخلاقه السمحة، هو لغتنا العربية التي جمعت ملايين البشر على هذه البسيطة، وحظيت بحفاوة ربانية حين اختارها الله لتكون لغة كتابه العزيز الذي أنزله نوراً وهدى للعالَمين، بل للكون جميعاً.
ومن المتخيل أن تضعف اللغة العربية وغيرها من اللغات بناءً على ما أسلفنا من القول باندماج الحضارة العالمية وتماهي عناصرها المتمايزة في بعضها، تماهياً إيجابياً متوازناً، لا انسحاقاً كتبعية المغلوب للغالب. ولكننا، بالرغم من التسليم العام بهذه الفكرة (على ما يوجَّه إليها من نقد، بل و"نقضٍ" أحياناً!)، ندرك تماما أن لغتنا العربية محفوفة بعناية إلهية حيث نزل الذكر الحكيم (كما سبقت الإشارة) بها دون سواها، فقد قال تعالى: "إنا نحن نَـزَّلنا الذكر، وإنا له لحافظون" (الـحِجْـر: 9).
(2)
وقد أسهمت عناصر عديدة في إضعاف اللغة العربية، اهتم برصدها وتحليلها الباحثون في حقول اللغة والمهتمون بالسياقات الثقافية عامةً.. ونكتفي هنا ببعضها فقط؛ رعايةً للاختصار وطلباً للتركيز.
- قلة الجهود المبذولة لتطوير مناهج علوم اللغة العربية وآدابها في المدارس والجامعات بشكل عصري مواكب للتقنيات الحديثة.
- ضعف الإعداد للأَطْـقُم التدريسية القائمة على تدريس اللغة العربية، وانعدام دافعية التعلم التطويري الذاتي عند الكثير من المعلمين بسبب كثرة المهام وازدحام الوقت.
- السياسة التعليمية الخاصة في بعض المدارس ثنائية اللغة، التي تقلل من النصاب العام لتدريس اللغة العربية في الجدول الأسبوعي لحساب بقية المواد الدراسية.
- مبالغة بعض المؤسسات وجهات العمل في اشتراط إتقان اللغة الانجليزية للحصول على وظيفة عادية في المجتمعات العربية.
- بعض الأسر تعتني بتعليم الطفل اللغة الإنجليزية لغةً أولى؛ استجابة لاحتياجات سوق العمل، أكثر من العناية باللغة الأم؛ مما يضعف اللغة العربية في قاموس الطفل، حتى على مستوى الخطاب اليومي، بل وحتى على مستوى اللهجة العربية الدارجة في بعض الحالات! ولا مفرَّ من أن هذا الضعف سينسحب على أسرته المستقبلية، فتكبر "كرة الثلج" بتكرار هذه النماذج الأسرية.
- والبعض الآخر من الأسر يمارس التقليد الحضاري (أو بالأحرى: اللاحضاري!) دون وعي، معتبراً أن اللغة الإنجليزية هي لغة الوجاهة المجتمعية، فيحرص على تغذية هذه الفكرة "الاستتباعية" في محيطه ومحيط أبنائه.
والباحث في أسباب ضعف اللغة العربية قد يجد عشرات من الأسباب الظاهرة أو الكامنة، وهي تختلف (في جذورها وأبعادها وتجلياتها ونِسَبها) من مجتمع لآخر، ومن "شريحة" اجتماعية وأخرى، ولكن ما يعنينا في هذه المقالة المركزة هو سؤال العلاج والنهوض: كيف نحفظ تراثنا، المتمثل في لغتنا وهُويتنا، وننقذه من هاوية التدهور والضعف؟، وكيف ننهض من هذه الكبوة الحضارية؟.
(3)
موجز الحل، من وجهة نظري، انطلاقاً من اهتمامي القديم/ المتجدد باللغة العربية، يتمحور في مبادئ ثلاثة: الالتزام، والإلزام، والاستدامة، وقبل بسط رؤيتي ثلاثية الأبعاد هذه بشيء من التفصيل، أحدد أولًا بإيجاز وبأسهل العبارات المعنى الاصطلاحي لهذه المبادئ الثلاثة.
- الالتزام: هو تفاعل الذات الحر مع القضية أو الحدث، وتبنيهما (أو أحدِهما) عن قناعة وإرادة، وإن خالفا (أو أحدُهما) ميولَ الشخص ورغباته.
- الإلزام: هو فعل قوة خارجية عن الذات، كالسلطة الحاكمة أو التنفيذية أو التشريعية والقضائية، التي لها حق الأمر والنهي، أو التطبيق، أو المراقبة والمحاسبة.
- الاستدامة: هي الحفاظ على الاستمرارية والحياة اعتماداً على حُسن استثمار الموارد وتنميتها وتوسيعها.
أما سؤال: كيف نطبق هذه المبادئ في مجال الحفاظ على لغتنا العربية الأصيلة؟؛ فسأصوغ، بإيجاز وتكثيف أيضاً، جوابه في عدة نقاط في كل مجال على حدة.
(4)
1- الالتزام: يمكن تنمية التزام الأفراد بقضية العربية من خلال:
- التربية الوالِدية: حيث تكون العناية منذ البدء بتعزيز قيمة اللغة العربية في الأسرة، بوصفها حاضنةً للهُوية والقيم التربوية، فمثلاً يمكن أن يخصص الوالدان أوقاتاً أسرية دافئة للتحدث مع أطفالهم باللغة العربية الميسَّرة، أو قراءةِ قصص بالعربية قبل النوم، مع الحرص على مخاطبة الأطفال باللغة العربية عند تعليمهم تسمية الأشياء والأفعال بأسمائها، والتدرجِ عبر مراحل نمو الأطفال، وإدخالِ قصص التراث الإسلامي وقصص الأنبياء بصوغها العصري (والإنتاج الحديث في هذا المجال كثير ومتنوع)، وتشجيعِ الأطفال على عادة القراءة عموماً، وتعزيزِ إنجازهم وتثمينه بالتشجيع والمكافأة باستمرار، مع جعلِ هذا كله نمطاً حياتياً حياً وجذاباً بقدر الإمكان، وليس مجرد عمل يؤدى من غير روح!.
- من الممكن تنمية الالتزام كذلك عند الأسر بصورة جماعية/ اجتماعية.. حين تبادر الأسرة لدعوة بقية الأسر في الحي الواحد، أو الأسر التي ترتبط في علاقة قرابة أو زمالة لممارسة أنشطة أسبوعية كالمسابقات والفعاليات الـمَصوغة لتعزيز اللغة العربية، مع الحرص على تنوع هذه المسابقات والأنشطة بما يثري حياة الأطفال وينمي قدراتهم مع إمتاعهم وإسعادهم.
- التزام المعلمين الواعي بتشجيع استخدام العربية في الصفوف وخارجها، والتزامهم بتطوير وسائلهم التدريسية؛ لجذب الطلاب لمحتوى الدروس العربية، وخلق منافسة شيقة بين حصص اللغة العربية وغيرها من حصص اللغات الأخرى.
هذا.. مع العلم أن دائرة الالتزام دائرة "لولبية"، قابلة للتمدد والنمو،
ويظل بالإمكان إيجاد العديد من الأفكار التي تطبق على مستويات فئات المجتمع كافة، ولكننا نكتفي هنا بالأمثلة التي سقناها في هذا المجال.
(5)
2- الإلزام: يختص هذا العنصر، كما سبق، بالسلطة العليا في كل مجتمع.. حاكمةً، أو تنفيذيةً، أو تشريعيةً وقضائيةً، وبالإمكان تحقيق هذا المبدأ من خلال ما يلي:
- تبني الدولة، بوصفها سلطةً عليا، قضيةَ حماية اللغة العربية (إرثاً حضارياً، ووعاءً حاملاً وحافظاً للهُوية)، وسنَّ القوانين والتشريعات الملزمة لجميع الجهات بجعل اللغة العربية تحظى بمكانتها اللازمة، ومن الجدير بالذكر أن دولتنا الفتية قطر قامت بجهود رائدة في مجال سن قوانين حماية اللغة العربية، وجعلها اللغة الأولى في المخاطبات الرسمية والاجتماعات والمكاتبات في جميع الوزارات والهيئات والدوائر الحكومية.
- ومن مظاهر الإلزام التي ترجمت على أرض الواقع ما نجده من حرص على استخدام اللغة العربية في وسائل الإعلام المختلفة في دولة قطر، وما نرصده من برامج مرئية ومسموعة ومكتوبة مصممة بهدف رفع الوعي المجتمعي بقضية الهوية العربية المتمثلة في سلامة اللغة العربية.
- صناعة المناهج: لابد أن تنال هذه المسألة عناية القائمين على التعليم في كل مجتمع، ولابد من استثمار جانب من الموازنات المالية التي تخصصها الدولة لبندي التعليم والصحة، من أجل تطوير مناهج اللغة العربية، مع الاستفادة من الخبرات الدولية والمحلية، ودمج التكنولوجيا الحديثة بشكل تطبيقي لإحياء دروس العربية وجعلها مواكبة لروح العصر واحتياجاته، جاذبة للطلاب، وقريبة من حياتهم وخبراتهم اليومية، والمتتبع لجهود الدولة في مجال الإلزام سيجد نماذج أخرى عديدة تدل عليه واضح الدلالة.
(6)
3- الاستدامة: وهذا المبدأ الثالث مرتبط بسابقيه، ارتباطَ الصفة بالموصوف، وما فصَلناه إلا لتسهيل الطرح وفرز عناصره، والاستدامة تتأتى من خلال الآتي:
- الوعي التام من جميع أصحاب الشأن المهتمين باللغة العربية، هُويةً وطنيةً جامعةً، بأن قضية اللغة العربية ليست مجرد شعارات اجتهادية ترفع لمجرد إثبات أننا نعمل، بل لابد من أن يصاحبها إيمان حقيقي ويقيني بأهمية هذه الجهود، واعتبارها مصيرية في حفظ تراثنا لأبنائنا، وتجنيبهم ضياع الـهُوية مستقبلاً حين تزداد التيارات العالمية تماوجاً نحو "الامتزاج الشامل" على نحو ما يرى بعض المراقبين والمنظِّرين.
- لابد من إدراك أن هذه الجهود الحامية للغة العربية والـهُوية الوطنية لا سقف زمنياً لها، فلابد من استمراريتها وتغذيتها وعدم استعجال أثرها المجتمعي، فإن آثارها الإيجابية الواضحة ربما لا تظهر إلا في المدى البعيد، ومن الخطورة أن تتراجع أو تضعف، فضلاً عن أن تقف أثناء طريق العلاج والتأسيس.. وهو طريق طويل.
- لابد من تنويع مصادر دعم العربية؛ فبالإضافة للقوانين الملزمة، والبرامج الرسمية المعتمدة، والمناهج الدراسية، نحتاج إلى فعاليات واسعة، ومكررة، وجاذبة، وعصرية، موجهةً لجميع فئات المجتمع (كالتي تقدمها "مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع").
- تفعيل الترجمة الفورية باللغة العربية لجميع المؤتمرات والدورات وحلقات العمل "الوِرش" والبرامج التدريبية المقدمة بلغات أجنبية، وجعلها متاحة أمام المتلقين والمهتمين؛ لتحقيق الاستفادة الكبرى من النتاج الإنساني في شتى القطاعات.
- التركيز على التجارب العملية الناجحة وتعميمها؛ ليستفيد منها أكبر قدر ممكن من شرائح المجتمع.
- وأخيراً.. لابد من تنفيذٍ أمثلَ لرؤية قطر المتعلقة بدعم اللغة العربية وربطها بالـهُوية الوطنية، يشترك فيه خبراءُ ومختصون يحللون الواقع المجتمعي للغة العربية، ويقيِّمون أهم الجهود المقدمة من جميع القطاعات، ثم يقدمون "إستراتيجية" شاملة تضطلع بتعزيز هذه الجهود والاستفادة منها على نطاق واسع؛ لدمج المتشابه وتقويته اختزالاً للكُلفة والوقت، وتأميناً للجهود من الضياع والتلاشي، وتلافياً للتكرار وعدم الاتساق.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
بات الذكاء الاصطناعي اليوم واقعاً لا يمكن تجاهله في ميادين العمل القانوني، حيث بدأت العديد من مكاتب المحاماة في مختلف الدول تستعين بتطبيقاته. غير أن هذه الاستعانة قد تثير، في بعض الأحيان، إشكالات قانونية حول مدى الاستخدام المنضبط لهذه التقنيات، ولا سيما عند الاعتماد على مخرجاتها دون التحقق من صحتها ودقتها، وهو ما تجلى بوضوح في حكم حديث صادر عن محكمة قطر الدولية، حيث تصدت فيه المحكمة لهذه المسألة للمرة الأولى في نطاق قضائها. فقد صدر مؤخراً حكم عن الدائرة الابتدائية بالمحكمة المدنية والتجارية لمركز قطر للمال، (المعروفة رسمياً باسم محكمة قطر الدولية)، في القضية رقم: [2025] QIC (F) 57 بتاريخ 9 نوفمبر 2025، بشأن الاستخدام غير المنضبط وسوء توظيف أدوات الذكاء الاصطناعي في العمل القانوني. وقد ورد في حيثيات الحكم أن أحد المترافعين أمام المحكمة، وهو محامٍ يعمل لدى أحد مكاتب المحاماة المقيدة خارج دولة قطر، كما هو واضح في الحكم، قد استند في دفاعه إلى أحكام وسوابق قضائية نسبها إلى المحكمة المدنية والتجارية لمركز قطر للمال. غير أن المحكمة، وبعد أن باشرت فحص المستندات والتحقق من الوقائع، تبين لها أن تلك السوابق لا وجود لها في سجلاتها الرسمية، ولم تصدر عن أي من دوائرها، وأن ما استند إليه المترافع إنما كان من مخرجات غير دقيقة صادرة عن أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي المدمجة في أحد محركات البحث الإلكترونية المعروفة، والتي عرضت أحكاما وسوابق قضائية وهمية لا أصل لها في الواقع أو في القضاء.وقد بينت المحكمة في حيثيات حكمها أن السلوك الذي صدر عن المحامي، وإن بدا في ظاهره خطأ غير مقصود، إلا أنه في جوهره يرقى إلى السلوك العمدي لما انطوى عليه من تقديم معلومات غير صحيحة تمثل ازدراء للمحكمة. وقد أشارت المحكمة إلى أنه كان بوسع المحامي أن يتحقق من صحة السوابق والأحكام القضائية التي استند إليها لو أنه بذل العناية الواجبة والتزم بأدنى متطلبات التحقق المهني، لا سيما وأن جميع أحكام المحكمة متاحة ومتوفرة عبر موقعها الإلكتروني الرسمي. وانتهت المحكمة إلى أن ما صدر عن المحامي يُشكل مخالفة صريحة لأحكام المادة (35.2.5) من القواعد والإجراءات المتبعة أمام المحكمة المدنية والتجارية لمركز قطر للمال لسنة 2025، والتي نصت على أن إعطاء معلومات خاطئة أو مضللة يُعد مخالفة تستوجب المساءلة والجزاء. كما أوضحت المحكمة أن استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، بوجه عام، في ميدان التقاضي هو أمر مرحب به لما يوفره من نفقات على أطراف الدعوى، ويُسهم في رفع كفاءة الأداء متى تم في إطاره المنضبط وتحت رقابة بشرية واعية. إذ إن الاعتماد عليه دون تحقق أو مراجعة دقيقة قد يفضي إلى نتائج غير محمودة. وقد أشارت المحكمة إلى أنها المرة الأولى التي يُستأنس فيها أمامها بأحكام منسوبة إليها لم تصدر عنها في الأصل، غير أنها أوضحت في الوقت ذاته أنّ مثل هذه الظاهرة قد ظهرت في عدد من الدول على خلفية التوسع في استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجال القانوني. وفي هذا الإطار، أشارت المحكمة إلى ما قضت به محكمة بولاية نيويورك في قضية Mata v. Avianca Inc (2023)، إذ تبين أن أحد المحامين قدم مذكرات قانونية اشتملت على أحكام وسوابق مختلقة تولدت عن استخدام غير دقيق لتقنيات الذكاء الاصطناعي. كما أشارت المحكمة إلى حكم آخر صادر عن محكمة بالمملكة المتحدة في قضية Ayinde v. Haringey (2025)، والذي أكد على وجوب المراجعة البشرية الدقيقة لأي نص قانوني أو سابقة قضائية يُنتجها الذكاء الاصطناعي قبل الاستناد إليها أمام القضاء، باعتبار ذلك التزاماً مهنياً وأخلاقياً لا يجوز التهاون فيه.كما لفتت المحكمة إلى أن ظواهر مماثلة قد لوحظت في بعض القضايا المنظورة أمام المحاكم في كندا وأستراليا، ويُظهر ذلك اتساع نطاق هذه الظاهرة وضرورة إحاطتها بضوابط مهنية دقيقة تكفل صون نزاهة الممارسة القانونية واستقلالها. وقد بينت المحكمة أنها بصدد إصدار توجيه إجرائي يقضي بأن الاستناد والإشارة إلى أي قضية أو مرجع أمام المحكمة في المستقبل دون التحقق من صحته أو من مصدره يُعد مخالفة تستوجب الجزاء، وقد يمتد أثرها إلى إعلان اسم المحامي ومكتبه في قرار المحكمة. وفي تقديرنا، يُعد هذا التوجه خطوة تُعزز مبادئ الشفافية، وتُكرس الانضباط المهني، وتُسهم في ردع أي ممارسات قد تمس بنزاهة الإجراءات القضائية وسلامة العمل القانوني. وفي الختام، نرى أن حكم محكمة قطر الدولية يُشكل رسالة مفادها أن الذكاء الاصطناعي سلاح ذو حدين، فإن أُحسن توظيفه كان عوناً في البحث والتحليل والاستدلال، أما إذا أُطلق دون رقابة أو وعي مهني، فقد يُقوض نزاهة التقاضي بين الخصوم ويُعد مساساً بمكانة المحكمة ووقارها.
2574
| 30 نوفمبر 2025
في كل يوم، ينظر الإنسان إلى ما ينقصه أكثر مما ينظر إلى ما يملكه. ينشغل الإنسان بأمنياته المؤجلة، وأحلامه البعيدة ينشغل بما ليس في يده، بينما يتجاهل أعظم ما منحه الله إياه وهي موهبته الخاصة. ومثلما سأل الله موسى عليه السلام: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾، فإن السؤال ذاته موجّه لكل إنسان اليوم ولكن بطريقة أخرى: ما هي موهبتك؟ وما عصاك التي بيدك؟ جوهر الفكرة ان لكل إنسان عصا. الفكرة الجوهرية لهذا المفهوم بسيطة وعميقة، لا يوجد شخص خُلق بلا قدرة وبلا موهبة وبلا شيء يتميز به، ولا يوجد إنسان وصل الدنيا فارغ اليدين. كل فرد يحمل (عصاه) الخاصة التي وهبه الله ليتكئ عليها، ويصنع بها أثره. المعلم يحمل معرفته. المثقف يحمل لغته. الطبيب يحمل علمه. الرياضي يحمل قوته. الفنان يحمل إبداعه. والأمثلة لا تنتهي ….. وحتى أبسط الناس يحملون حكمة، أو صبرًا، أو قدرة اجتماعية، أو مهارة عملية قد تغيّر حياة أشخاص آخرين. الموهبة ليست مجرد ميزة… إنها مسؤولية في عالم الإعلام الحديث، تُقدَّم المواهب غالبًا كوسيلة للشهرة أو الدخل المادي، لكن الحقيقة أن الموهبة قبل كل شيء أمانة ومسؤولية. الله لا يمنح إنسانًا قدرة إلا لسبب، ولا يضع في يدك عصا إلا لتفعل بها ما يليق بك وبها. والسؤال هنا: هل نستخدم مواهبنا لصناعة القيمة، وترك الأثر الجميل والمفيد أم نتركها مدفونة ؟ تشير الملاحظات المجتمعية إلى أن عددًا كبيرًا من الناس يهملون مواهبهم لعدة أسباب، وليس ذلك مجرد انطباع؛ فبحسب تقارير عالمية خلال عام 2023 فإن نحو 80% من الأشخاص لا يستخدمون مواهبهم الطبيعية في حياتهم أو أعمالهم، مما يعني أن أغلب البشر يعيشون دون أن يُفعّلوا العصا التي في أيديهم. ولعل أهم أسباب ذلك هو التقليل من قيمة الذات، ومقارنة النفس بالآخرين، والخوف من الفشل، وأحيانا عدم إدراك أن ما يملكه الشخص قد يكون مهمًا له ولغيره، بالإضافة إلى الاعتقاد الخاطئ بأن الموهبة يجب أن تكون شيئًا كبيرًا أو خارقًا. هذه الأسباب تحوّل العصا من أداة قوة… إلى مجرد منحوتة معلقة على جدار الديوان. إن الرسالة التي يقدمها هذا المقال بسيطة ومباشرة، استخدم موهبتك فيما يخدم الناس. ليس المطلوب أن تشق البحر، بل أن تشقّ طريقًا لنفسك أو لغيرك. ليس المطلوب أن تصنع معجزة، بل أن تصنع فارقًا. وما أكثر الفروق الصغيرة التي تُحدث أثرًا طويلًا، تعلُم وتعليم، أو دعم محتاج، خلق فكرة، مشاركة خبرة، حل مشكلة… كلها أعمال نبيلة تُجيب على السؤال الإلهي حين يُسأل الإنسان ماذا فعلت بما أعطيتك ومنحتك؟ عصاك لا تتركها تسقط، ولا تؤجل استخدامها. فقد تكون أنت سبب تغيير في حياة شخص لا تعرفه، وقد تكون موهبتك حلًّا لعُقدة لا يُحلّها أحد سواك. ارفع عصاك اليوم… فقد آن لموهبتك أن تعمل.
1536
| 02 ديسمبر 2025
فجعت محافل العلم والتعليم في بلاد الحرمين الشريفين برحيل معالي الأستاذ الدكتور الشيخ محمد بن علي العقلا، أحد أشهر من تولى رئاسة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، والحق أنني ما رأيت أحدًا أجمعت القلوب على حبه في المدينة المنورة لتواضعه ودماثة أخلاقه، كما أجمعت على حب الفقيد الراحل، تغمده الله بواسع رحماته، وأسكنه روضات جناته، اللهم آمين. ولد الشيخ العقلا عليه الرحمة في مكة المكرمة عام 1378 في أسرة تميمية النسب، قصيمية الأصل، برز فيها عدد من الأجلاء الذين تولوا المناصب الرفيعة في المملكة العربية السعودية منذ تأسيس الدولة. وقد تولى الشيخ محمد بن علي نفسه عمادة كلية الشريعة بجامعة أم القرى، ثم تولى رئاسة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة عام 1428، فكان مكتبه عامرا بالضيوف والمراجعين مفتوحًا للجميع وجواله بالمثل، وكان دأبه الرد على الرسائل في حال لم يتمكن من إجابة الاتصالات لأشغاله الكثيرة، ويشارك في الوقت نفسه جميع الناس في مناسباتهم أفراحهم وأتراحهم. خرجنا ونحن طلاب مع فضيلته في رحلة إلى بر المدينة مع إمام الحرم النبوي وقاضي المدينة العلامة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ وعميد كلية أصول الدين الشيخ عبد العزيز بن صالح الطويان ونائب رئيس الجامعة الشيخ أحمد كاتب وغيرهم، فكان رحمه الله آية في التواضع وهضم الذات وكسر البروتوكول حتى أذاب سائر الحواجز بين جميع المشاركين في تلك الرحلة. عرف رحمه الله بقضاء حوائج الناس مع ابتسامة لا تفارق محياه، وقد دخلت شخصيا مكتبه رحمه الله تعالى لحاجة ما، فاتصل مباشرة بالشخص المسؤول وطلب الإسراع في تخليص الأمر الخاص بي، فكان لذلك وقع طيب في نفسي وزملائي من حولي. ومن مآثره الحسان التي طالما تحدث بها طلاب الجامعة الإسلامية أن أحد طلاب الجامعة الإسلامية الأفارقة اتصل بالشيخ في منتصف الليل وطلب منه أن يتدخل لإدخال زوجته الحامل إلى المستشفى، وكانت في حال المخاض، فحضر الشيخ نفسه إليه ونقله وزوجته إلى المستشفى، وبذل جاهه في سبيل تيسير إدخال المرأة لتنال الرعاية اللازمة. شرفنا رحمه الله وأجزل مثوبته بالزيارة إلى قطر مع أهل بيته، وكانت زيارة كبيرة على القلب وتركت فينا أسنى الأثر، ودعونا فضيلته للمشاركة بمؤتمر دولي أقامته جامعة الزيتونة عندما كنت مبتعثًا من الدولة إليها لكتابة أطروحة الدكتوراه مع عضويتي بوحدة السنة والسيرة في الزيتونة، فكانت رسالته الصوتية وشكره أكبر داعم لنا، وشارك يومها من المملكة معالي وزير التعليم الأسبق والأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الوالد الشيخ عبدالله بن صالح العبيد بورقة علمية بعنوان «جهود المملكة العربية السعودية في خدمة السنة النبوية» ومعالي الوالد الشيخ قيس بن محمد آل الشيخ مبارك، العضو السابق بهيئة كبار العلماء في المملكة، وقد قرأنا عليه أثناء وجوده في تونس من كتاب الوقف في مختصر الشيخ خليل، واستفدنا من عقله وعلمه وأدبه. وخلال وجودنا بالمدينة أقيمت ندوة لصاحب السمو الملكي الأمير نواف بن فيصل بن فهد آل سعود حضرها أمير المدينة يومها الأمير المحبوب عبد العزيز بن ماجد وعلماء المدينة وكبار مسؤوليها، وحينما حضرنا جعلني بعض المرافقين للشيخ العقلا بجوار المستشارين بالديوان الملكي، كما جعلوا الشيخ جاسم بن محمد الجابر بجوار أعضاء مجلس الشورى. وفي بعض الفصول الدراسية زاملنا ابنه الدكتور عقيل ابن الشيخ محمد بن علي العقلا فكان كأبيه في الأدب ودماثة الأخلاق والسعي في تلبية حاجات زملائه. ودعانا مرة معالي الشيخ العلامة سعد بن ناصر الشثري في الحرم المكي لتناول العشاء في مجلس الوجيه القطان بمكة، وتعرفنا يومها على رئيس هيئات مكة المكرمة الشيخ فراج بن علي العقلا، الأخ الأكبر للشيخ محمد، فكان سلام الناس عليه دليلا واضحا على منزلته في قلوبهم، وقد دعانا إلى زيارة مجلسه، جزاه الله خيرا. صادق العزاء وجميل السلوان نزجيها إلى أسرة الشيخ ومحبيه وطلابه وعموم أهلنا الكرام في المملكة العربية السعودية، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، اللهم تقبله في العلماء الأتقياء الأنقياء العاملين الصالحين من أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. «إنا لله وإنا إليه راجعون».
1320
| 04 ديسمبر 2025