رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

راشد بن محمد المهندي

مساحة إعلانية

مقالات

405

راشد بن محمد المهندي

الحكمة والشجاعة

27 أغسطس 2025 , 05:08ص

وَكُلُّ شَجاعَةٍ في المَرءِ تُغني

وَلا مِثلَ الشَجاعَةِ في الحَكيمِ

«المتنبي»

في عالم القيادة، ليست العظمة في كثرة الأوامر ولا في وفرة المخططات، بل في تلك الخصال التي تصنع الفرق بين من يسير بالجماعة نحو المجهول ومن يقودهم نحو الأفق. الحكمة هي البصيرة التي ترى ما وراء اللحظة، والشجاعة هي القوة التي تدفع الخطى وسط الرياح. بين الاثنتين تنشأ القيادة الحقيقية، حيث يصبح الفكر ضياءً والفعل جناحين.

الحكمة ليست علمًا محفوظا ولا تجربة جامدة، بل حس داخلي يعرف متى يُمسك القائد زمام الانتظار ومتى يطلق العنان للحركة. إنها القدرة على الموازنة بين الرغبة في الإنجاز والحاجة إلى التدبر، بين ما يراه الجميع وما يراه القائد وحده من خلف الضباب. القائد الحكيم يقرأ ما وراء الأرقام والتقارير، ويشعر بالمسارات التي لا يجرؤ الآخرون على التنبؤ بها، فيحمي فريقه من التهور كما يحميه من الجمود.

أما الشجاعة فهي تلك الشرارة التي تجعل القرار واقعًا، وتجعل من الفكرة الوليدة مشروعا، ومن الحلم البعيد واقع يُعاش. هي القدرة على مواجهة المجهول دون خوف من الفشل، وعلى قول «نعم» عندما يختبئ الآخرون خلف كلمة «لاحقا»، وعلى الاعتراف بالخطأ من أجل البناء لا الهدم. الشجاعة ليست اندفاعا أعمى، بل إصرار هادئ يضع القائد أمام مرآة ذاته ويطالبه بالمسؤولية الكاملة.

وفي حياتي العملية رأيت بأم العين كيف سقطت مشاريع كان لها أن تغيّر وجه العمل، بل وجه العالم لو تحلّى أصحابها بالشجاعة. لم يكن الخلل في الفكر ولا في الموارد، بل في لحظة الحقيقة، حين احتاجت القرارات إلى قلب جريء يوقّع ويخاطر، تراجع القائد الجبان إلى الوراء. غياب الشجاعة كان كفيلًا بأن يحوّل الوعد إلى سراب، والجهد إلى ذكرى ناقصة والى فصل لبه ماذا لو. ولعل من أقسى مشاهد الإدارة أن ترى فكرة لامعة تموت بين جبن وتردد وعدم اتخاذ قرار، فقط لأن من بيدهم القرار لم يمتلكوا الجرأة على السير خطوة واحدة للأمام.

وتزداد أهمية هاتين الصفتين حين تعصف الأزمات. ففي لحظات الانهيار المالي أو الأزمات السياسية أو الكوارث المفاجئة، يتطلع الناس إلى قادتهم بحثًا عن كلمة تزرع الطمأنينة أو قرار يفتح باب الخلاص. هنا تتجلّى الحكمة في قراءة أبعاد الموقف وتجنّب ردود الفعل المتسرعة، وتتجلى الشجاعة في تحمّل المسؤولية وعدم الهروب من المواجهة. القائد الذي يجمع بين الصفتين لا ينجو وحده، بل ينجّي مؤسسته ومن معه، ويحوّل الخوف الجماعي إلى طاقة جماعية تدفع نحو الحلول.

القيادة الحقّة تولد حين يتعانق العمق مع الجرأة، وحين يصبح القائد قادرا على الإصغاء بقدر ما يجرؤ على الفعل، وعلى التأنّي بقدر ما يتقن الاندفاع. الحكمة بلا شجاعة كلامٌ يذروه الهواء، والشجاعة بلا حكمة اندفاعٌ يهوي بصاحبه إلى المجهول. وحده اللقاء بينهما يمنح الإدارة روحا، ويمنح القيادة معنى.

المؤسسات التي يقودها حكماء شجعان ليست كغيرها؛ فهي لا تهاب العواصف، ولا تتوقف أمام العقبات، بل تجعل من كل أزمة باب للابتكار، ومن كل تحدٍّ فرصة للريادة. هناك، فقط، تُكتب سيرة النجاح، وهناك فقط يدرك الناس أن القيادة ليست لقبًا يُمنح، بل خصالٌ تُجسّد في كل موقف وقرار. ولا عزاء للجبناء...

مساحة إعلانية