رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. خالد وليد محمود

• متخصص بالسياسة السيبرانية

مساحة إعلانية

مقالات

207

د. خالد وليد محمود

المرآة المقلقة للذكاء الاصطناعي!

26 أغسطس 2025 , 02:57ص

التاريخ لا يروي لنا حكايات الماضي فحسب، بل يقدم لنا مرايا عاكسة نرى فيها ملامح المستقبل. لقد شهدت البشرية تحولات جذرية أعادت تشكيل مسارها، لكن كل تحول منها حمل طابعاً مختلفاً. فالثورة الصناعية التي انطلقت شرارتها في القرن الثامن عشر، غيّرت بشكل جذري علاقة الإنسان بالآلة، وحوّلته من كائن يعتمد على قوته الجسدية إلى سيد للطاقة الميكانيكية. لقد زادت هذه الثورة من قوته العضلية آلاف المرات، ومكنته من تشييد الصروح العملاقة وقطع المسافات الشاسعة، لكنها مع هذا كله لم تمس جوهر عقله أو تنازعه سيادته على عملية التفكير والإبداع.

ومع بزوغ فجر الثورة الرقمية، جاء اختراع الحاسوب ثم الإنترنت ليشكلا نقلة نوعية أخرى. هذان الاختراعان غيَّرَا مفهوم الزمان والمكان بشكل لم يسبق له مثيل، واختصرا المسافات، وسهّلا تدفق المعلومات بشكل غير مسبوق. لكنهما مع ذلك لم يسلبا الإنسان دوره الأساسي كفاعل معرفي وصانع للمعنى. لقد بقيت الآلة أداة طيعة في يد العقل البشري، تخضع لسيطرته وتنفذ أوامره.

أما الذكاء الاصطناعي، فإنه يمثل تحولاً مختلفاً جذرياً. فخطورته لا تكمن في كونه مجرد أداة مساعدة، بل في كونه يتجه ليحل محل العقل نفسه. بكلمات أخرى: إذا كانت الآلات السابقة قد ساعدت الإنسان على العمل أسرع وأقوى، فإن الآلات الذكية تسعى لأن تفكر بدلاً منه، بل وربما بطريقة لا يستطيع هو فهمها أو توقعها. هذه النقلة النوعية هي ما يجعل «الانفجار الذكي» مختلفاً عن كل ما سبقه من تحولات؛ فهو لا يغير الوسائل فحسب، بل يعيد صياغة الفاعل ذاته، ويطرح أسئلة وجودية حول مكانة الإنسان في عالم تتفوق فيه الآلات على خالقها في مجالات متزايدة.

لطالما كان الأدب والسينما مختبراً مبكراً لتجسيد هذه المخاوف الوجودية. من فيلم «2001: A Space Odyssey» الذي صور صراع الإنسان مع الحاسوب HAL 9000 المتعطش للسلطة، إلى فيلم «Ex Machina» الذي استكشف تجربة وعي الآلة وحدود السيطرة البشرية، وصولًا إلى فيلم «Her» الذي صور انحلال الحدود بين الإنسان والنظام الذكي في علاقة عاطفية معقدة. هذه الأعمال التي كانت تبدو ضرباً من الخيال العلمي قبل عقود، أصبحت اليوم قريبة من الواقع بدرجة مقلقة. الفارق الوحيد أننا لم نعد نناقشها كقصص فنية تهدف إلى التسلية، بل كاحتمالات عملية تطرحها تقارير بحثية جادة وسياسات حكومية وخطط إستراتيجية للشركات التقنية الكبرى. وهكذا، يتحول الخيال العلمي من نافذة للتسلية إلى مرآة عاكسة لأسئلة المستقبل المصيرية التي تواجه البشرية.

في مواجهة هذا المشهد المتشابك والمعقد، تتزايد الدعوات إلى وضع أطر حوكمة عالمية للذكاء الاصطناعي. فقد خطا الاتحاد الأوروبي خطوة مبكرة عبر قانون الذكاء الاصطناعي، الذي يعد أول إطار قانوني شامل يهدف إلى تنظيم هذه التكنولوجيا، واضعًا معايير واضحة تميز بين التطبيقات «عالية المخاطر» وتلك الأقل خطورة. وعلى الصعيد العالمي، بدأت الأمم المتحدة مناقشات جادة حول إمكانية صياغة «معاهدة للذكاء الاصطناعي» شبيهة بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، على أساس أن المخاطر الناجمة عن الذكاء الاصطناعي لا تقتصر على دولة أو شركة واحدة بل تمس مصير الإنسانية جمعاء.

ثمة مراكز أبحاث مستقلة مثل «معهد مستقبل الإنسانية» في أكسفورد و»معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» و»مؤسسة أبحاث الذكاء الاصطناعي» في كاليفورنيا، دعت منذ سنوات إلى ضرورة بناء أطر أخلاقية وقانونية ملزمة تسبق التطور التقني. الهدف من هذه الجهود ليس وقف التطور أو عجلة الابتكار، فهذا أمر مستحيل وغير مرغوب فيه، بل توجيه مسار هذا التطور بحيث يعظم الفوائد ويقلل المخاطر إلى أدنى حد ممكن. وفي غياب مثل هذه الحوكمة الفعالة، قد نجد أنفسنا في مواجهة مستقبل قاتم تتخذ فيه الآلات قرارات مصيرية تتعلق بحياة البشر ومصيرهم دون رقيب أو حسيب، في سيناريو يشبه تلك الأفلام التي كنا نشاهدها كمادة للترفيه لنكتشف أنها أصبحت واقعاً نعيشه.

مساحة إعلانية