رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تغنى وما زال الكثير من المختصين والباحثين والمنظرين في شؤون الصحافة والإعلام بأن الصحافة هي السلطة الرابعة التي تراقب السلطات الثلاث في المجتمع: السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية. ومنهم من رأى أن الصحافة هي بارومتر الديمقراطية وهي الأساس في إنصاف الفقراء والمساكين والضعفاء، وهي الوسيلة الاستراتيجية للكشف عن الحقيقة واستقصاء الواقع حتى سماها الأمريكيون بـ "كلب الحراسة"، لكن واقع القرن الحادي والعشرين وواقع الحرب على الإرهاب يقولان إن الصحافة تحوّلت من السلطة الرابعة إلى وسيلة لتزييف الواقع وتضليل الوعي وفبركة الأحداث والقضايا وفق ما تمليه عليها قوى المال والأعمال والسياسة. أصبح الإعلام في القرن الحادي والعشرين صناعة تفبرك الواقع أكثر مما تشرحه وتفّسره كما هو للرأي العام. الإعلام في عصر المجتمع الرقمي أصبح قوة تقرأ الواقع وتفسره وفق القوى المالية والسياسية التي تتحكم فيه. قراءة تفاعل المؤسسات الإعلامية الأمريكية مع أحداث 11 سبتمبر تعطينا الاستنتاجات التالية:
* معظم وسائل الإعلام الغربية ركزت على الإسلام والمسلمين والعرب واستغلت الحدث للتضليل والتشويه والتعتيم وتعزيز الصور النمطية ضد الإسلام والمسلمين والعرب، والتي أصبحت معروفة ومتداولة منذ زمن طويل. فتجاهلت وسائل الإعلام الأسباب الحقيقية وراحت تنظر لبعض الممارسات الخاطئة والمنحرفة عن تعاليم الدين الإسلامي وهذا ما أدى إلى التباس كبير جدا وحرّك الكراهية والضغينة والحقد عند فئات كبيرة من الرأي العام في الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية الأمر الذي أدى إلى وقوع حوادث وتصرفات عنصرية راح ضحيتها الكثير من المسلمين والعرب الأبرياء في الدول الغربية المختلفة. والتناقض الصارخ هنا هو أن الغالبية العظمى من القائمين بالاتصال في الغرب ومن المسؤولين في المؤسسات الإعلامية المختلفة لا يعرفون جيدا الإسلام ولم يحاولوا فهم هذا الدين، والتفرقة والتمييز بين تعاليمه وتطبيقه في أرض الواقع.
ركزت وسائل الإعلام الغربية على نتائج 11 سبتمبر وتداعياتها على العلاقات السياسية الدولية وعلى الخريطة الاقتصادية العالمية وعلى الكثير من المفاهيم والمسلمات مثل الأمن القومي، والعولمة.. الخ وأهملت الأسباب التي أدت إلى ما حدث ولماذا الاعتداء على أمريكا دون سواها. الأسباب أصبحت ثانوية وغير مهمة ولا قيمة لها وأصبح التركيز فقط على الأصولية الإسلامية وعلى الإرهاب حيث حاول العديد من المؤسسات الإعلامية الغربية ربط ما يجري في فلسطين بما حدث في 11 سبتمبر. وهنا نلاحظ أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي استفادت من أحداث 11 سبتمبر لتطبيق إرهابها المستمر على الشعب الفلسطيني متذرعة بمحاربة الإرهاب. واستطاع بذلك السفاح شارون أن ينفذ كل خططه الجهنمية للقضاء على كل بوادر التفاهم والحوار كأساس لإقامة دولة فلسطينية. شارون وآلته الإعلامية الدعائية والمنتشرة في أكبر وأهم العواصم العالمية استغل الإعلام الغربي لتمرير كراهية العرب والمسلمين وتشويه الإسلام.
* فسر الإعلام الغربي الأصولية الإسلامية بانتشار الفقر والبطالة وانعدام العدالة الاجتماعية متناسيا تماما أن النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية هو نظام جائر غير عادل يبتز ويستغل الشعوب المغلوب على أمرها وأن السياسة الخارجية الأمريكية ودور الشرطي الذي تلعبه الولايات المتحدة الأمريكية في العالم هو أساس كراهية الكثير من شعوب العالم للولايات المتحدة الأمريكية.
* تجاهلت معظم وسائل الإعلام الغربية كراهية الآخرين للولايات المتحدة الأمريكية، حيث إن الأمريكيين أنفسهم فوجئوا بنتائج الاستطلاعات التي قاموا بها في مختلف أرجاء العالم. والسبب بطبيعة الحال يرجع إلى السلوك التعسفي والجائر الذي تقوم به الولايات المتحدة في تعاملها مع دول العالم وخاصة سياستها الخارجية في الشرق الأوسط ودعمها اللامحدود لدولة إسرائيل.
* تجاهلت معظم وسائل الإعلام الغربية سيطرة اللوبي الصهيوني على الكونجرس الأمريكي وبذلك السياسة الخارجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، كما تجاهلت الخضوع والخنوع الأمريكي التام للكيان الصهيوني الذي يمارس يوميا إرهاب الدولة. فأمريكا تكيل بمكيالين في تعاملها مع ظاهرة الإرهاب ومع مبدأ تحرير الأرض وتقرير المصير.
* اعتمدت وسائل الإعلام الغربية في معظم تحاليلها ودراساتها وبرامجها على خبراء ومختصين ومراكز بحوث ودراسات تتميز بعدائها لكل ما هو عربي ومسلم وبولائها للكيان الصهيوني والاطروحات الغربية المتطرفة التي لا تؤمن بحوار الحضارات والتفاهم والتواصل بين الشعوب. ولذلك لم نر شخصيات مثل "رجاء جارودي" أو "نعوم تش ومسكي" أو "إدوارد سعيد" على شاشات أو صفحات المؤسسات الإعلامية الغربية الفاعلة، والسبب البسيط لذلك هو لأن أطروحات وآراء ووجهات نظر هؤلاء ستكشف "الفبركة" والتلاعب Manipulation والتزييف والتضليل التي تقوم بها الآلة الإعلامية الغربية في عرض الأحداث وفق قراءتها هي وليس وفق الواقع.
* لم تحاول وسائل الإعلام الغربية أن تقدم صورة عن العلاقات الدولية وعن النظام الدولي المفلس والمليء بالتناقضات وكذلك لم تحاول أن تكشف عن السياسة الخارجية الأمريكية من مشروع مارشال إلى يومنا هذا. كما لم تحاول أن تبرز التناقضات التي أفرزتها السياسة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وبذلك انهيار الثنائية القطبية وانفراد أمريكا بالزعامة الدولية. الآلة الإعلامية الغربية جاءت سطحية في تعاملها مع وقائع 11 سبتمبر وحتى ما كتبه بعض الصحفيين الأوروبيين وعلى رأسهم الصحفي الفرنسي تييري ميسان صاحب كتاب "الخديعة الكبرى" لم يؤخذ بالجدية اللازمة والكافية وإنما تم النظر إلى هذه الأطروحات بالسخرية والتهكم والازدراء. فتييري ميسان يرى "أن التفجيرات نظمت من داخل قيادة الجيش الأمريكي". وروجي جارودي يرى أن "أحداث سبتمبر مؤامرة تواطأت فيها المخابرات وأجهزة الدولة".
* لم تحاول الآلة الإعلامية الغربية أن تتساءل عن عملية استغلال أحداث 11 سبتمبر من قبل الولايات المتحدة الأمريكية لإعادة صياغة العالم، وأن الحرب ضد الإرهاب ما هي إلى حرب ضد القانون الدولي وحقوق الإنسان التي أصبحت تعاني الكثير حتى في داخل حدود أمريكا. فها هي ماري روبنسون مفوضة الأمم المتحدة العليا لحقوق الإنسان تقول "إن الولايات المتحدة الأمريكية تتذرع منذ 11 سبتمبر بمكافحة الإرهاب للتعرض لحقوق الإنسان وبالتالي فنحن نشعر بالقلق على تآكل الحقوق المدنية في الدول التي تحارب الإرهاب"، وخير دليل على ذلك هو قانون الإرهاب المطبق داخل الولايات المتحدة الأمريكية والذي نسف نسفا خطيرا كل ما له صلة بحقوق الإنسان والحريات الفردية. ما يحدث في "جوانتانامو" والمعاملة الوحشية للسجناء هناك هو وجه آخر لانتهاك حقوق الإنسان.
تعتبر عملية إخفاء الحقيقة الدرجة العليا من الجريمة ومن الإرهاب وأن تزوير الواقع وتشويهه والتلاعب بعقول الجماهير لإرضاء حفنة صغيرة جدا من تجار الأسلحة والحروب يفوق في خطورته أكبر الأعمال الإجرامية والإرهابية، فالضمير المهني الإعلامي مطالب باستعمال المهنية والحرفية والأخلاق والالتزام بهدف التفاهم والتواصل والحب والوئام بين الأجناس والأعراق والشعوب وحتى يصبح الإعلام مصدرا لنشر القيم الإنسانية والمحبة والتفاهم والرفاهية والرخاء في جميع أنحاء العالم، وليس لإشعال نار الفتنة والحروب والجرائم والحقد والكراهية والعنصرية.
تأهيل ذوي الإعاقة مسؤولية مجتمع
لم يعد الحديث عن تأهيل ذوي الإعاقة مجرد شأن إنساني أو اجتماعي بحت، بل أصبح قضية تنموية شاملة... اقرأ المزيد
219
| 24 أكتوبر 2025
منْ ملأ ليله بالمزاح فلا ينتظر الصّباح
النّهضة هي مرحلة تحوّل فكري وثقافي كبير وتمتاز بالتّجدّد وتظهر دائما من خلال المشاريع الجديدة العملاقة المعتمدة على... اقرأ المزيد
807
| 24 أكتوبر 2025
لا تنتظر الآخرين لتحقيق النجاح
في حياتنا اليومية، نجد أنفسنا غالبا ما نعتمد على الآخرين لتحقيق النجاح والسعادة. نعتمد على أصدقائنا وعائلتنا وزملائنا... اقرأ المزيد
156
| 24 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
5940
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3717
| 21 أكتوبر 2025