رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
صنفت الأمم المتحدة قطر كدولة ذات تنمية بشرية عالية وتعتبر على نطاق واسع واحدة من أكثر الدول العربية تقدما من حيث التنمية البشرية، كما تعتبر كذلك من أغنى دول العالم، حيث تحتل المرتبة الأولى من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، ومع ذلك، فإن ارتفاع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في قطر والنمو الاقتصادي السريع، مدفوعًا بإيرادات النفط، قد قوض الحاجة إلى تنمية المهارات بين المواطنين القطريين، مما أدى إلى نقص حاد في العاملين القطريين القابلين للتوظيف، ولملء هذا الفراغ اضطرت الحكومة إلى الاعتماد على العمالة الأجنبية.
وتشهد دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، مثل الإمارات العربية المتحدة وعمان والمملكة العربية السعودية والبحرين، تدفقات عالية من العمال الأجانب، مما دفع هذه الدول إلى إطلاق مبادرات التوطين الخاصة بها. وفي ظل ظروف مماثلة لظروف الدول الشقيقة، أطلقت قطر مبادرة التوطين «التقطير» لتغيير الوضع الراهن من خلال تقليل اعتمادها على العمالة الأجنبية وتنمية قوتها العاملة.
● يضع التقطير إمكانية تحويل قطر إلى اقتصاد قائم على المعرفة من خلال الاستثمار في رأس المال البشري الوطني وتطويره من خلال مجموعة متنوعة من الحوافز الاقتصادية والأطر الحكومية التي تشجع الاستثمار في التعليم والابتكار وتكنولوجيا المعلومات. إن تنفيذ الرؤية الوطنية 2030 سيغير قواعد اللعبة في قطر، ومن أجل تنفيذ الرؤية، فإن أحد المتطلبات الأساسية هو تطوير رأس المال البشري من حيث التعليم والابتكار ومهارات تكنولوجيا المعلومات.
وتتمثل الأهداف الرئيسية للتقطير في جذب القطريين وتطويرهم وتحفيزهم والاحتفاظ بهم، مما يؤدي إلى تكوين قوى عاملة قطرية ذات كفاءة عالية، وتوفير فرص وظيفية قيمة ذات مستقبل واعد. إن تطوير الموارد البشرية الوطنية ذات المعرفة والمهارة والملتزمة والخبرة هو السبيل الوحيد لتحقيق الهدف العام المتمثل في التقطير بنسبة 50 ٪ في المناصب الدائمة، الأمر الذي أدى إلى تضافر الجهود لتحقيق ذلك.
العوامل المؤثرة على التقطير
● العوامل الأساسية التي تؤثر على التقطير هي التعليم والتدريب. لتنفيذ التقطير، لابد من وجود قوة عاملة قطرية مدربة جيدًا ومؤهلة يمكنها العمل في كل من القطاعين العام والخاص. ولسوء الحظ، يعد هذا مصدرًا رئيسيًا للقلق، حيث إن المعروض من المهنيين القطريين المؤهلين والمدربين تعليميًّا لا يلبي الطلب الحالي والمتزايد.
ونظرًا لتوفر الوظائف الحكومية، فإن القطريين لديهم خيارات عديدة لتولي المناصب الحكومية. ولا يُطلب منهم العمل في القطاع الخاص، وغالباً ما يكونون غير مهتمين بالقيام بذلك. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الامتيازات في الوظائف الحكومية عادة ما تفوق تلك الموجودة في القطاع الخاص. يتم دائمًا قياس الأمن الوظيفي وخطط التقاعد والتوقعات الأخرى مقابل تلك التي تقدمها الوكالات والشركات الحكومية. وبما أن غالبية الوظائف الخاصة لها معاييرها ومستويات مهاراتها وإجراءاتها الخاصة، فإن هناك نقصًا حادًا في العمالة القطرية المؤهلة.
● إن البرامج التعليمية التي يختارها المواطنون القطريون لا تتناسب بشكل تام مع متطلبات سوق العمل القطري. تتطلب المجالات المطلوبة مثل الحوسبة والعلوم والهندسة والتصنيع والبناء والصحة والرعاية الاجتماعية وخدمات الضيافة موظفين أكفاء. ما يقرب من 23 % من السكان القطريين متخصصون في المواضيع المذكورة أعلاه، وهو رقم بعيد كل البعد عن عدد الأفراد المهرة المتاح بين السكان غير القطريين. ومن الواضح تمامًا أنه كان هناك نقص في التنسيق والتخطيط بين التعليم (التدريب والتطوير) ومتطلبات سوق العمل، مما أدى إلى عدم التطابق في عرض العمالة من حيث المهارات والكفاءات التي يحتاجها القطاع الخاص.
● تتكون بيئة الأعمال في قطر من جزأين: عام وخاص. ويقود القطاع العام مبادرات التقطير، في حين أن غياب الشركات الخاصة الكبيرة وعدم قدرة الشركات الخاصة القائمة على تلبية توقعات العمال المواطنين القطريين يعيق القطاع الخاص عن المشاركة الفعالة في التحول. ويعمل غالبية المواطنين القطريين ذكوراً وإناثاً في القطاع الحكومي، بينما يعمل أغلبية الذكور والإناث غير القطريين في القطاع الخاص. 10 % فقط من القطريين يعملون في القطاع الخاص. يوفر العمل في القطاع العام للمواطنين القطريين وضعًا اجتماعيًا معينًا ويعتبر عمومًا حقًا مكتسبًا. ولكن عندما يتعلق الأمر بالتوظيف، فإن المواطنين القطريين لديهم أربعة اهتمامات رئيسية: المستقبل الآمن، وساعات العمل، وثقافة العمل، وفرص النمو.
● يتمتع المواطنون القطريون بقدر كبير من الكفاءة في مجالات التعلم والتطوير والتعليم والتطوير الوظيفي والثقافة التنظيمية وتحسين الأداء. ولن تكون التغييرات في هذه المجالات ممكنة إلا إذا تبنى المواطنون القطريون منظوراً جديداً فيما يتعلق بفرص العمل والتوظيف. وتتمثل مجالات التدريب الأساسية للإناث القطريات في الإدارة (57 %) والتدريس (22 %)، في حين أن مجالات التدريب الأساسية للذكور القطريين هي الإدارية (49.5 %)، والنفط والغاز، والأمن والسلامة. ويجب أن يتغير هذا، ويجب على القطريين استكشاف مسارات وخيارات وظيفية جديدة لضمان وجود متنوع في التركيبة السكانية للتوظيف في البلاد؛ عندها فقط سوف ينعكس إيجاباً على تحقيق رؤية 2030.
تحديات التقطير
● هناك خمسة تحديات رئيسية يتعين على الشركات الخاصة التغلب عليها عند تنفيذ التقطير. وهي التكلفة العالية لتوظيف المواطنين القطريين والاحتفاظ بهم، وعدم القدرة على تلبية التوقعات مثل الاستقرار الوظيفي، وخطط التقاعد، وغيرها من المزايا المطابقة لتلك التي تقدمها الشركات الحكومية، وندرة العمال المؤهلين ذوي الخبرة اللازمة، والخوف من فقدان السيطرة على الأعمال ونقص الإنتاجية التنافسية للقطريين مقارنة بالعمالة الوافدة.
ويشكل توافر القطريين ذوي المهارات والخبرة اللازمة تحديا، ففي حين أن نسبة النساء المؤهلات للعمل في الشركات الخاصة مرتفعة، فإن نسبتهن الإجمالية أقل من ربع السكان الذين يهيمن عليهم الذكور. من الناحية المهنية، قد تكون هناك أوقات لا تتوفر فيها المهارات والكفاءات المناسبة بين القطريين لوظيفة معينة، وفي مثل هذه الحالات، يتم تعيين الوافدين لشغل الوظيفة.
وتضطر العديد من الشركات الخاصة إلى توظيف مواطنين قطريين لكي تعكس اعتماد التقطير في عملياتها. ونتيجة لذلك، يتم الاحتفاظ بهؤلاء الموظفين في الشركة، لكنهم لا يخضعون لعملية التعلم وتنمية المهارات، وهو ما يعد عيبًا للتقطير على المدى الطويل.
● لا يوجد مخطط واضح لتنفيذ التقطير. ويجب أن يكون جهدًا تعاونيًا بين المؤسسات التعليمية والتدريبية، والشركات العامة، والخاصة والحكومة. يتم حاليًا تنفيذ مبادرة التقطير بشكل منفصل من قبل عدد قليل من الشركات العامة، ولكن بدون خطة إستراتيجية مناسبة. ومن ناحية أخرى، لم يبدأ القطاع الخاص بعد عملية التقطير بشكل فعال. هناك فرص للمواطنين القطريين للعمل في القطاع الخاص؛ ومع ذلك، فإن ساعات العمل الأطول مقارنة بشركات القطاع العام غالبا ما تشكل مصدر قلق للرجال القطريين الذين يفكرون في العمل في القطاع الخاص، في حين أن ثقافات العمل المختلطة بين الجنسين وساعات العمل الأطول غالبا ما تشكل عائقا أمام المرأة القطرية التي تفكر في العمل في القطاع الخاص..
المجالات الرئيسية التي تحتاج إلى الاهتمام
● تعمل غالبية الشركات العامة القطرية في قطاع التعدين واستغلال المحاجر. ومع ذلك، يشير الاتجاه الأخير من عام 2018 إلى إعادة توزيع العمالة من قطاع التعدين واستغلال المحاجر إلى قطاعات أخرى مع وجود أكبر للشركات الخاصة. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أنه لا يوجد حاليًا دعم حكومي للشركات الخاصة لتسهيل عملية التقطير وتلبية توقعات المواطنين القطريين.
هناك مجال آخر يتطلب اهتمامًا وتدخلًا وثيقًا وهو تصورات أصحاب المصلحة، والتي لها تأثير كبير على وتيرة التقطير. لا يفضل المواطنون القطريون، بشكل عام، العمل في الشركات الخاصة لعدة أسباب، بما في ذلك عدم وجود مستقبل / معاش تقاعدي آمن، وساعات العمل الأطول، وثقافة العمل غير التقليدية، وعدم اليقين بشأن آفاق النمو المستقبلي. تتمتع شركات القطاع العام بخطط ومزايا تقاعد قوية مقارنة بالشركات الخاصة التي توفر إحساسًا بالأمان وبالتالي تؤدي إلى جاذبية أفضل والاحتفاظ بها.
● على الرغم من أن التقطير كمفهوم له مستقبل مشرق، إلا أن الوتيرة الحالية وحالة تنفيذ التقطير بطيئة وغير واعدة، وذلك بسبب نقص الدعم والتنسيق بين مختلف الأطراف المعنية، فضلاً عن التصور الحالي للوضع الراهن على مستوى العالم. المستوى الفردي والتنظيمي. هناك نقص في المعلومات المحددة بشأن وتيرة التقطير وتقدمه لأنه لا توجد خارطة طريق مكتوبة بشكل جيد لتنفيذ التقطير ولا مؤشرات رئيسية لقياس التقدم. وحتى المنظمات الحكومية تفتقر إلى نظام موثوق لتتبع التغييرات قبل وبعد تنفيذ المبادرة.
بالإضافة إلى ذلك، من المهم ملاحظة أنه على الرغم من أن التقطير هو أحد الركائز الأساسية لمستقبل قطر، إلا أنه لم يتم إجراء أي دراسات أكاديمية شاملة لفهم الفرص والتحديات المرتبطة به. ويتطلب النهج الإستراتيجي في هذه الحالة تحديد الكفاءات والمهارات التي ستسهم في تحقيق أهداف رؤية قطر 2030 وتلبية احتياجات عصر المعرفة. ويجب تطبيق ذلك على الوظائف التي يمكن للقطريين القيام بها الآن وفي المستقبل. ولكي يتمكن المواطنون القطريون من إتقان المهارات، فإن البرامج التدريبية المخصصة ضرورية للغاية.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
حين ننظر إلى المتقاعدين في قطر، لا نراهم خارج إطار العطاء، بل نراهم ذاكرة الوطن الحية، وامتداد مسيرة بنائه منذ عقود. هم الجيل الذي زرع، وأسّس، وساهم في تشكيل الملامح الأولى لمؤسسات الدولة الحديثة. ولأن قطر لم تكن يومًا دولة تنسى أبناءها، فقد كانت من أوائل الدول التي خصّت المتقاعدين برعاية استثنائية، وعلاوات تحفيزية، ومكافآت تليق بتاريخ عطائهم، في نهج إنساني رسخته القيادة الحكيمة منذ أعوام. لكن أبناء الوطن هؤلاء «المتقاعدون» لا يزالون ينظرون بعين الفخر والمحبة إلى كل خطوة تُتخذ اليوم، في ظل القيادة الرشيدة لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله – فهم يرون في كل قرار جديد نبض الوطن يتجدد. ويقولون من قلوبهم: نحن أيضًا أبناؤك يا صاحب السمو، ما زلنا نعيش على عهدك، ننتظر لمستك الحانية التي تعودناها، ونثق أن كرمك لا يفرق بين من لا يزال في الميدان، ومن تقاعد بعد رحلة شرف وخدمة. وفي هذا الإطار، جاء اعتماد القانون الجديد للموارد البشرية ليؤكد من جديد أن التحفيز في قطر لا يقف عند حد، ولا يُوجّه لفئة دون أخرى. فالقانون ليس مجرد تحديث إداري أو تعديل في اللوائح، بل هو رؤية وطنية متكاملة تستهدف الإنسان قبل المنصب، والعطاء قبل العنوان الوظيفي. وقد حمل القانون في طياته علاوات متعددة، من بدل الزواج إلى بدل العمل الإضافي، وحوافز الأداء، وتشجيع التطوير المهني، في خطوة تُكرس العدالة، وتُعزز ثقافة التحفيز والاستقرار الأسري والمهني. هذا القانون يُعد امتدادًا طبيعيًا لنهج القيادة القطرية في تمكين الإنسان، سواء كان موظفًا أو متقاعدًا، فالجميع في عين الوطن سواء، وكل من خدم قطر سيبقى جزءًا من نسيجها وذاكرتها. إنه نهج يُترجم رؤية القيادة التي تؤمن بأن الوفاء ليس مجرد قيمة اجتماعية، بل سياسة دولة تُكرم العطاء وتزرع في الأجيال حب الخدمة العامة. في النهاية، يثبت هذا القانون أن قطر ماضية في تعزيز العدالة الوظيفية والتحفيز الإنساني، وأن الاستثمار في الإنسان – في كل مراحله – هو الاستثمار الأجدر والأبقى. فالموظف في مكتبه، والمتقاعد في بيته، كلاهما يسهم في كتابة الحكاية نفسها: حكاية وطن لا ينسى أبناءه.
8799
| 09 أكتوبر 2025
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا صحفيًا لا وجود فيه للصحافة؟ منصة أنيقة، شعارات لامعة، كاميرات معلّقة على الحائط، لكن لا قلم يكتب، ولا ميكروفون يحمل شعار صحيفة، ولا حتى سؤال واحد يوقظ الوعي! تتحدث الجهة المنظمة، تصفق لنفسها، وتغادر القاعة وكأنها أقنعت العالم بينما لم يسمعها أحد أصلًا! لماذا إذن يُسمّى «مؤتمرًا صحفيًا»؟ هل لأنهم اعتادوا أن يضعوا الكلمة فقط في الدعوة دون أن يدركوا معناها؟ أم لأن المواجهة الحقيقية مع الصحفيين باتت تزعج من تعودوا على الكلام الآمن، والتصفيق المضمون؟ أين الصحافة من المشهد؟ الصحافة الحقيقية ليست ديكورًا خلف المنصّة. الصحافة سؤالٌ، وجرأة، وضمير يسائل، لا يصفّق. فحين تغيب الأسئلة، يغيب العقل الجمعي، ويغيب معها جوهر المؤتمر ذاته. ما معنى أن تُقصى الميكروفونات ويُستبدل الحوار ببيانٍ مكتوب؟ منذ متى تحوّل «المؤتمر الصحفي» إلى إعلان تجاري مغلّف بالكلمات؟ ومنذ متى أصبحت الصورة أهم من المضمون؟ الخوف من السؤال. أزمة ثقة أم غياب وعي؟ الخوف من السؤال هو أول مظاهر الضعف في أي مؤسسة. المسؤول الذي يتهرب من الإجابة يعلن – دون أن يدري – فقره في الفكرة، وضعفه في الإقناع. في السياسة والإعلام، الشفافية لا تُمنح، بل تُختبر أمام الميكروفون، لا خلف العدسة. لماذا نخشى الصحفي؟ هل لأننا لا نملك إجابة؟ أم لأننا نخشى أن يكتشف الناس غيابها؟ الحقيقة الغائبة خلف العدسة ما يجري اليوم من «مؤتمرات بلا صحافة» هو تشويه للمفهوم ذاته. فالمؤتمر الصحفي لم يُخلق لتلميع الصورة، بل لكشف الحقيقة. هو مساحة مواجهة بين الكلمة والمسؤول، بين الفعل والتبرير. حين تتحول المنصّة إلى monologue - حديث ذاتي- تفقد الرسالة معناها. فما قيمة خطاب بلا جمهور؟ وما معنى شفافية لا تُختبر؟ في الختام.. المؤتمر بلا صحفيين، كالوطن بلا مواطنين، والصوت بلا صدى. من أراد الظهور، فليجرب الوقوف أمام سؤال صادق. ومن أراد الاحترام فليتحدث أمام من يملك الجرأة على أن يسأله: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟
4035
| 13 أكتوبر 2025
في زمن تتسابق فيه الأمم على رقمنة ذاكرتها الوطنية، يقف الأرشيف القطري أمام تحدٍّ كبيرٍ بين نار الإهمال الورقي وجدار الحوسبة المغلقة. فبين رفوف مملوءة بالوثائق القديمة، وخوادم رقمية لا يعرف طريقها الباحثون، تضيع أحيانًا ملامح تاريخنا الذي يستحق أن يُروى كما يجب وتتعثر محاولات الذكاء الاصطناعي في استيعاب هويتنا وتاريخنا بالشكل الصحيح. فلا يمكن لأي دولة أن تبني مستقبلها دون أن تحفظ ماضيها. لكن جزءًا كبيراً من الأرشيف القطري ما زال يعيش في الظل، متناثرًا بين المؤسسات، بلا تصنيف موحّد أو نظام حديث للبحث والاسترجاع. الكثير من الوثائق التاريخية المهمة محفوظة في أدراج المؤسسات، أو ضمن أنظمة إلكترونية لا يستطيع الباحث الوصول إليها بسهولة. هذا الواقع يجعل من الصعب تحويل الأرشيف إلى مصدر مفتوح للمعرفة الوطنية، ويهدد باندثار تفاصيل دقيقة من تاريخ قطر الحديث. في المقابل، تمتلك الدولة الإمكانيات والكوادر التي تؤهلها لإطلاق مشروع وطني شامل للأرشفة الذكية، يعتمد على الذكاء الاصطناعي في فهرسة الوثائق، وتحليل الصور القديمة، وربط الأحداث بالأزمنة والأماكن. فبهذه الخطوة يمكن تحويل الأرشيف إلى ذاكرة رقمية حيّة، متاحة للباحثين والجمهور والطلبة بسهولة وموثوقية. فبعض الوثائق تُحفظ بلا فهرسة دقيقة، وأخرى تُخزَّن في أنظمة مغلقة تمنع الوصول إليها إلا بإجراءاتٍ معقدة. والنتيجة: ذاكرة وطنية غنية، لكنها مقيّدة. الذكاء الاصطناعي... فرصة الإنقاذ، فالذكاء الاصطناعي فرصة نادرة لإحياء الأرشيف الوطني. فالتقنيات الحديثة اليوم قادرة على قراءة الوثائق القديمة، وتحليل النصوص، والتعرّف على الصور والمخطوطات، وربط الأحداث ببعضها زمنياً وجغرافياً. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحوّل ملايين الصفحات التاريخية إلى ذاكرة رقمية ذكية، متاحة للباحثين والطلاب والإعلاميين بضغطة زر. غير أن المشكلة لا تتوقف عند الأرشيف، بل تمتد إلى الفضاء الرقمي. فعلى الرغم من التطور الكبير في البنية التحتية التقنية، إلا أن الإنترنت لا يزال يفتقر إلى محتوى قطري كافٍ ومنظم في مجالات التاريخ والثقافة والمجتمع. وحين يحاول الذكاء الاصطناعي تحليل الواقع القطري، يجد أمامه فراغًا معرفيًا كبيرًا، لأن المعلومة ببساطة غير متاحة أو غير قابلة للقراءة الآلية. الذكاء الاصطناعي لا يخلق المعرفة من العدم، بل يتعلم منها. وعندما تكون المعلومات المحلية غائبة، تكون الصورة التي يقدمها عن قطر مشوشة وغير مكتملة، ما يقلل من فرص إبراز الهوية القطرية رقمياً أمام العالم. فراغ رقمي في عالم متخم بالمعلومات.....حين يكتب الباحث أو الصحفي أو حتى الذكاء الاصطناعي عن موضوع يتعلق بتاريخ قطر، أو بأحد رموزها الثقافية أو أحداثها القديمة، يجد أمامه فراغًا معلوماتيًا واسعًا. مثالنا الواقعي كان عند سؤالنا لإحدى منصات الذكاء الاصطناعي عن رأيه بكأس العالم قطر2022 كان رأيه سلبياً نظراً لاعتماده بشكل كبير على المعلومات والحملات الغربية المحرضة وذلك لافتقار المنصات الوطنية والعربية للمعلومات الدقيقة والصحيحة فكثير من الأرشيفات محفوظة داخل المؤسسات ولا تُتاح للعامة، والمواقع الحكومية تفتقر أحيانًا إلى أرشفة رقمية مفتوحة أو واجهات بحث متطورة، فيما تبقى المواد المحلية مشتتة بين ملفات PDF مغلقة أو صور لا يمكن تحليلها والنتيجة: كمٌّ هائل من المعرفة غير قابل للقراءة الآلية، وبالتالي خارج نطاق استفادة الذكاء الاصطناعي منها. المسؤولية الوطنية والمجتمعية تتطلب اليوم ليس فقط مشروعاً تقنياً، بل مشروعاً وطنياً شاملًا للأرشفة الذكية، تشارك فيه الوزارات والجامعات والمراكز البحثية والإعلامية. كما يجب إطلاق حملات توعوية ومجتمعية تزرع في الأجيال الجديدة فكرة أن الأرشيف ليس مجرد أوراق قديمة، بل هو هوية وطنية وسرد إنساني لا يُقدّر بثمن. فالحفاظ على الأرشيف هو حفاظ على الذاكرة، والذاكرة هي التي تصنع الوعي بالماضي والرؤية للمستقبل، يجب أن تتعاون الوزارات، والجامعات، والمراكز الثقافية والإعلامية والصحف الرسمية والمكتبات الوطنية في نشر محتواها وأرشيفها رقمياً، بلغتين على الأقل، مع الالتزام بمعايير التوثيق والشفافية. كما يمكن إطلاق حملات مجتمعية لتشجيع المواطنين على المساهمة في حفظ التاريخ المحلي، من صور ومذكرات ووثائق، ضمن منصات رقمية وطنية. قد يكون الطريق طويلاً، لكن البداية تبدأ بقرار: أن نفتح الأبواب أمام المعرفة، وأن نثق بأن التاريخ حين يُفتح للعقول، يزدهر أكثر. الأرشيف القطري لا يستحق أن يُدفن في الأنظمة المغلقة، بل أن يُعاد تقديمه للعالم كصفحات مضيئة من قصة قطر... فحين نفتح الأرشيف ونغذي الإنترنت بالمحتوى المحلي الموثق، نصنع جسرًا بين الماضي والمستقبل، ونمنح الذكاء الاصطناعي القدرة على رواية قصة قطر كما يجب أن تُروى. فالذاكرة الوطنية ليست مجرد وثائق، بل هويةٌ حيّة تُكتب كل يوم... وتُروى للأجيال القادمة.
2388
| 07 أكتوبر 2025