رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

سعدية مفرح

كاتبة كويتية

مساحة إعلانية

مقالات

423

سعدية مفرح

صيدنايا.. وماذا عن النسخ الأخرى؟

16 ديسمبر 2024 , 02:00ص

ما زالت مشاهد سجن صيدنايا تتوالى علينا فنشعر بفداحة الظلم الذي يحيق بالبشر لمجرد أنهم بشر. فهذا السجن، الذي تحول إلى مسلخ بشري في عهد نظام بشار الأسد، يكشف عن أهوال تفوق التصور، حيث استحال المكان من منشأة احتجاز إلى فضاء تتجسد فيه أبشع صور العنف والاضطهاد الممنهج. ففي قلب هذا الجحيم المعزول عن أنظار العالم، انتهكت كرامة الإنسان ودمرت أرواح البشر بأبشع الأدوات والأساليب المتوقعة وغير المتوقعة.

على مدار سنوات حكم الأسد الابن وقبله الأسد الأب، تجذرت فكرة قمع المعارضة كركيزة أساسية لبقاء النظام، إلا أن وسائل هذا القمع بلغت من البشاعة ما تجاوز الحدود الطبيعية للصراع السياسي. فقد لجأ النظام إلى استخدام التعذيب كسلاح لكسر إرادة كل من تسول له نفسه المطالبة بالحرية أو رفع صوته ضد الاستبداد. وفي هذا السياق، أصبح سجن صيدنايا نقطة سوداء في سجل القمع، حيث تمت فيه ممارسات لا يمكن وصفها إلا بأنها جرائم ضد الإنسانية. هندس التعذيب داخل السجن ليصبح فعلًا روتينيًا يُمارس بأشكال وحشية، تستهدف إلغاء وجود المعتقلين جسديًا ونفسيًا، وتحويلهم إلى ظلال باهتة لإنسانيتهم.

تقارير المنظمات الحقوقية وشهادات الناجين كشفت عن تفاصيل تقشعر لها الأبدان. هنا، لم يكن التعذيب مجرد أداة لإجبار المعتقلين على الاعتراف أو التراجع، بل كان غاية في حد ذاته، يُمارَس بنية سحق الكرامة الإنسانية وإرسال رسالة واضحة للجميع بأن الاعتراض يساوي الموت البطيء تحت وطأة العذاب. الضرب المبرح، والصدمات الكهربائية، والحرمان من الطعام والماء، والعزل في زنازين ضيقة تفتقر لأبسط مقومات الحياة، ليست سوى جزء من قائمة طويلة من الممارسات التي جُعلت واقعًا يوميًا داخل جدران السجن. بل وصل الأمر إلى تنفيذ الإعدامات الجماعية بدم بارد، حيث تحولت ليالي صيدنايا إلى مشاهد مأساوية تختلط فيها أصوات الاستغاثة بصمت الموت المطبق.

وما يجعل صيدنايا أكثر رعبًا هو الصمت العالمي الطويل إزاء هذه الانتهاكات.

لسنوات، ظل هذا السجن عصيًا على الكشف، وكان القمع فيه يجري تحت ستار الكتمان الممنهج. غير أن الناجين، الذين حملوا معهم ذكرياتهم المحطمة، قدموا للعالم شهادات تقطر ألمًا ومرارة. لقد سردوا كيف كانوا يُجرّون عُراةً أمام أعين الحراس، وكيف كانت جلسات التعذيب تُنفَّذ بطرق أشبه بطقوس سوداء تُكرس فيها السلطة المطلقة للجلاد، وتجعل المعتقل يشعر بانعدام القيمة والقدرة على المقاومة.

ربما كانت أشد هذه الشهادات وقعًا هي تلك التي تحدثت عن “مجازر التعذيب”، حيث يشنق المعتقلون بالجملة أو يقتلون خنقًا، ثم تُلقى أجسادهم في مقابر جماعية دون أسماء أو هويات. هذه الجرائم ليست مجرد أحداث عابرة في زمن حرب، بل هي تعبير صارخ عن منظومة قمعية متكاملة تهدف إلى القضاء على كل بذرة معارضة. لقد أدرك النظام أن الاستمرار في الحكم يتطلب سحق كل من يجرؤ على الحلم بغد أفضل، فتحولت صيدنايا إلى آلة حقيقية، لا مجازية، تطحن الأجساد، وأصبحت صورة مصغرة لنظام أدار ظهره لكل القيم الأخلاقية والإنسانية.

ما أعمق المأساة حين نعلم أن هذه الجرائم لم تُنفّذ بمعزل عن التخطيط والتنظيم.

إنها ليست مجرد حكاية عن سجن، بل انعكاس لحالة القمع التي كان يعيشها الشعب السوري منذ عقود طويلة من حكم الأب والابن. قصة تصرخ في وجه الضمير الإنساني، لتطرح أسئلة مؤرقة عن دور العالم في مواجهة هذه الجرائم وعن مدى جدية التزام المجتمع الدولي بالمبادئ التي طالما رفع رايتها.

ومع ذلك، يبقى الأمل بأن عدالة التاريخ ستقول كلمتها ذات يوم، وبأن أرواح الضحايا ستظل شاهدة على فظائع هذا النظام، حتى يأتي اليوم الذي يُحاسَب فيه الجلادون على كل جريمة ارتكبوها بحق شعب لم يطلب سوى الحرية والكرامة.

ولكن ماذا عن النسخ الأخرى من هذا السجن التي لا شك أنها موجودة الآن في دول كثيرة؟ عذابات البشر لا تنتهي في أجزاء كبيرة من هذه الكرة الأرضية التي نعيش فيها. بحثاً عن كرامة وحرية.

مساحة إعلانية