رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
نظام يتجه نحو إعادة إنتاج نفسه ورئاسيات بطعم العهدة الخامسة، ضاربة بإرادة الحراك وطموحات عشرات الملايين من الجزائريين عرض الحائط، رئاسيات هندستها المؤسسة العسكرية بمترشحين من صلب النظام السابق. الحراك يتساءل أين هو بوشاشي وحمروش وأحمد طالب الإبراهيمي وبن بيتور ورحابي؟، شخصيات سياسية نظيفة ونزيهة كان يتمنى أن تكون مرشحة للرئاسيات، كان الحراك يحلم أن يكون أحد هؤلاء من يحكم جزائر الجمهورية الثانية جزائر القطيعة مع الماضي والقطيعة مع الاستبداد والفساد، مع الأسف الشديد أماني الحراك تبخرت ورئاسيات العهدة الخامسة على الأبواب، إذن هل نحن في طريق التطور نحو الوراء، أم العودة لنقطة الصفر، أم إصرار النظام على تجاهل مطالب الحراك وإعادة إنتاج نفسه من خلال الحل الدستوري وتطبيق المادة 102 من دستور تم تفصيله حسب مقاس الرئيس السابق بوتفليقة الذي عبث به كما شاء، الكثير من المحللين رأوا أن استقالة بوتفليقة لا تعني الكثير، حيث إن ذهاب بوتفليقة ومجيء بن صالح هو تبادل أدوار بطريقة تحافظ على النظام واستمراره، الشعب الجزائري في الواقع لا يريد استبدال بوتفليقة ببن صالح ابن النظام الذي صال وجال في الوسط السياسي الجزائري لمدة تزيد على الثلاثين سنة، بن صالح الذي ترأس مجلس الأمة لأكثر من أربع مرات وترأس حزب التجمع الديمقراطي الذي يعتبر من آليات النظام الفعالة، بن صالح الرئيس المؤقت للجزائر بموجب المادة 102 هو من المتحمسين الكبار والفعالين الذين أصروا على العهدة الخامسة للرئيس بوتفليقة والذين كانوا من الأوفياء والمخلصين لنظام اتسم بالفساد وبتبذير المال العام على مدار عشرين سنة، نظام اتسم بانتشار الصفقات المشبوهة والقضايا التي أسالت الكثير من الأحبار والأخبار كقضية الكوكايين والخليفة وسوناطراك وغيرها كثير. ما يعني أن بن صالح هو رمز من رموز النظام والذي سيعمل جاهدا ويبذل قصارى جهوده لإعادة إنتاج هذا النظام الذي ترعرع وكبر وهرم في ضلوعه، ما يعني أن المسيرات المليونية التي شهدتها الجزائر منذ 22 فبراير الماضي لم تأت بشيء يذكر ما عدا اعتراف العالم بسلميتها وتنظيمها المحكم ونضجها السياسي. فمن شعار "خواة- خواة" أي إخوة إخوة إلى حالة يبدو فيها أن الجيش تخلى عن الحراك ونسي المادة 7 و8، والمأزق الذي يواجهه الحراك بعد استقالة بوتفليقة هو أن دستور 2016 لم يأخذ بعين الاعتبار ما تمر به الجزائر هذه الأيام، فالدستور الذي فصله نظام بوتفليقة وتلاعب به ثلاث مرات لا يستطيع بأي حال من الأحوال حل الأزمة الجزائرية حاليا دستورياً، فالحل إذن سياسي بالدرجة الأولى. فالمادة 102 لا تستجيب نهائياً لمطالب الحراك بل تسمح بطريقة شرعية ودستورية لرئيس مجلس الأمة ليترأس البلاد مؤقتاً، وحتى تمديد فترة رئاسة بن صالح للجزائر يعتبر تمديدا غير دستوري وخارج القانون.
فإذا انحاز أحمد قايد صالح للحراك في المرحلة الأولى وفرض على السعيد بوتفليقة والجناح العسكري الموالي له استقالة الرئيس بوتفليقة وتنحيه نلاحظ أنه بعد تنصيب بن صالح في 9 أبريل 2019 رئيسا مؤقتا للبلاد بموجب المادة 102 أن قائد الأركان انحاز للنظام في عملية إعادة إنتاج نفسه. وأصبح القايد صالح، يصف بين عشية وضحاها، مطالب الحراك بالمطالب التعجيزية ما يحتم ضرورة الالتزام بالدستور وفجأة نلاحظ أن الكلام عن المادة 7 و8 قد اختفى نهائيا من خطاب القايد كاختفاء الملح في الماء.
الأزمة التي تعيشها الجزائر حاليا لا تحلها المادة 102، وهذه المادة تصلح في ظروف عادية وليس في ظروف خرج فيها 20 مليون جزائري يطالبون بالتغيير، وحتى الدستور لا يصلح في الظروف الحالية لأنه اخترق من قبل الرئيس المستقيل 3 مرات واخترق عندما وافق الرئيس السابق على حكومة لا ترقى لأن تكون حكومة تسير شؤون البلاد في مثل هذه الظروف. فالمسار الدستوري الذي تريده قيادة الجيش وتهدف من خلاله إلى الحفاظ على النظام يعتبر التفافاً على مطالب الشعب ولا يفي بالغرض بل يكرس الوضع الراهن ويستبدل بوتفليقة ببن صالح، والاثنان من نفس النظام ويمثلان عقدين من تسيير سياسي وإداري واقتصادي فاشل بكل المعايير والمقاييس وما بن صالح إلا امتداد لنظام بوتفليقة ما يعني أن مسيرات ملايين الجزائريين لمدة 9 شهور ذهبت أدراج الرياح وأن نظام بوتفليقة بقي قائما برجالاته وأيديولوجيته وبجيشه.. المسار الدستوري يكرس ويدعم الوضع الراهن وإعادة إنتاج النظام بامتياز، حيث يخدم أحزاب النظام أكثر من أحزاب المعارضة كونها تملك من الموارد والخبرة ما يمكنها من التحضير للانتخابات، كما أن الحركة الاحتجاجية ما زالت غير منظمة وغير قادرة على إنتاج كيانات سياسية قادرة على منافسة أحزاب وهياكل سياسية منظمة ومتمرسة منذ عقود من الزمان، هذا ما يقودنا للكلام عن المادة 7 و8 التي تفتقر لأية آليات واضحة لتطبيقها من أجل تجسيد محتواها على أرض الواقع وهو الإقرار بأن الشعب هو مصدر السلطة. لكن بتنصيب بن صالح رئيسا مؤقتا للبلاد فهذا يعني أن السلطة الحقيقية هي بيد النظام الذي بدأ جاهدا في عملية إعادة إنتاج نفسه من خلال دعوة الهيئة الانتخابية للانتخابات الرئاسية بتاريخ 12 ديسمبر 2019. وهنا نلاحظ استبعاد المسار السياسي لمعالجة الأزمة التي تمر بها الجزائر هذه الأيام، ومنطقيا المسار السياسي هو النهج السليم لبداية مرحلة البناء للجمهورية الثانية والتخلص من النظام الفاسد.
فالمسار السياسي هو الأمثل للاستجابة لمطالب الحراك وتطبيق المادة 7 و8 على أرض الواقع. المسار السياسي الذي يطالب به الشارع يهدف إلى تحقيق الانتقال الديمقراطي الحقيقي وليس مجرد تغيير بوتفليقة بأحد الخمسة المرشحين لانتخابات 12 ديسمبر 2019. فالخروج من الأزمة والانتقال الديمقراطي السلس والهادئ والمنهجي والمنظم، طريق التخلص من النظام الفاسد في الجزائر ما زال طويلا ويحتاج إلى عمل ومثابرة ورؤية وإستراتيجية، مرة أخرى، تفوت الجزائر فرصة ذهبية للتخلص من 57 سنة من الاستبداد والطغيان والفساد وسوء الإدارة والتسيير لشؤون البلاد والعباد، فمحاولة الوصول إلى الديمقراطية بطرق غير ديمقراطية وغير نزيهة وغير شفافة لا تفرز بأي حال من الأحوال الحكم الراشد ولا تلبي مطالب الملايين التي خرجت إلى الشارع منذ 22 فبراير الماضي وحتى هذه اللحظة. فانتخابات 12 ديسمبر 2019 ما هي إلا هروب إلى الأمام وعدم احترام مسيرات سلمية حضرية أثبتت أن الشعب في الجزائر أنضج ممن يحكمونه. صحيح أن القايد صالح أستطاع أن يتخلص من سعيد بوتفليقة وعصابته لكنه بقي وفيا للمؤسسة العسكرية التي حكمت الجزائر منذ الاستقلال من وراء الكواليس، فالقايد صالح اختار من سيحكم الجزائر منذ مدة وهو متأكد من أن الجيش يبقى دائما المعادلة الصعبة والفاعل رقم واحد في الشأن السياسي الجزائري.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6192
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3756
| 21 أكتوبر 2025