رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
إنه أنصاريٌّ أوسيّ من أهل بدر، واحدٌ من أولئك الثلاثمائة وبضعة عشر صحابيا، من الذين شهدوا يوم بدر، يوم الفرقان، ذلك اليوم العظيم في تاريخ الإسلام، الذي وقعت فيه أول معركة حاسمة بين جيش الحق، وجيش الباطل، نصر الله فيها جنده، وأعزهم وأظهرهم على عدوهم، وأظفرهم منهم مغانم كثيرة قد وعدها الله رسوله الكريم، والذين آمنوا معه، وكذلك يتولّى الله المؤمنين الصابرين، إذ استجاب سبحانه لاستغاثتهم وأمدهم بجند من الملائكة ظهير مترادف متتابع، بمددٍ من السماء، ممن بيده النصر، وله كلُّ الأمر.
هنالك في ذلك اليوم كُسرت شوكة المشركين، وغلبوا وتجرعوا شر هزيمة، وانقلبوا خاسرين صاغرين، قد قتل كبار رؤوسهم، وسادة زعمائهم، وتبددوا مذعورين، راجعين بالغُرم والندم، جزاء من حادَّ الله ورسوله.
إنه كان يومئذٍ بطلاً مجاهدا، وأسدا مقاتلا، أبلى البلاء الحسن، يصاول ويجالد عن الحق والإيمان لتعلو راية الإسلام، وليكتبَ للدين النصر والتمكين، لم يكن إلا ثابت القدم، صادق العزم، فأناله الله من عدوه، وأعمل فيهم سيفه، إنه ذلك الشهيد، إنه الصقر الكريم، ذو الروح الحميد، إنه خُبيب بن عَديّ، رضي الله عنه.
تحقق للمسلمين إذن في يوم بدر نصر مبين، وفوز ثمين، ولحقت بالكافرين، هزيمة منكرة، أذلتهم وأقضت مضاجعهم، وجعلت قرارهم لا يستقر، ونفوسهم لا تهدأ، قد ملئت غلاً وحقداً لما أصابهم من المسلمين، فأضمروا الانتقام، وأزمعوا عليه، وأخذوا يفكرون فيه، ويستعدون له، وشرعوا يتربصون بالمسلمين الدوائر، ليطفئوا ما في صدورهم من سخائم.
رأى رسول الله، والحالة تلك، أن يبعث عيوناً ليترصدوا الأخبار، ويتحسسوا الأنباء، ويستطلعوا الأحوال، فاختار لهذا رهطا من عشرة رجال، أمَّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري، وكان من بينهم خبيب. انتَدَبَ الرهط لما أمروا به، ووُكِل إليهم، فساروا متوكلين على الله ربِهم، لا يعوق مسيرهم شيء، حتى بلغوا موضعا بين عُسفان ومكة، وساعتئذٍ عرف بهم وأحس، حيٌّ من عرب هذيل، يقال لهم بنو لحيان، فانطلقوا إليهم بنحو مئة رامٍ من رجالهم، وأخذوا يقتصّون آثارهم ويقتفونها، حتى أحس بهم عاصم وأصحابه، وعندئذٍ رأوْا أن يلجأوا إلى جبل، ويصعدوا قمته، ليحتموا منهم، ولكنّ القومَ أحاطوا بهم، وطوقوا عليهم الحصار، ثم صاحوا بهم: انزلوا، انزلوا، واستسلموا ولكم العهد والميثاق، ألا نقتل ولا نؤذي منكم أحداً.
تحيَّر العشرة، ونظر بعضهم إلى بعض، فبادر أميرهم عاصم، فقال: أيها القوم، أمّا أنا فلا أنزل على ذمة كافر. فاستقروا جميعا على رأيه هذا، والحق معه، إذ كيف يكون لمن لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، عهد وذمة وخلق. وإذ ذاك طفق الرماة يرمونهم بالنبل، فقتلوا عاصما، وقتلوا معه آخرين، حتى بقي منهم ثلاثة، أحدهم خبيب بن عدي، والآخر زيد بن الدَثِنة، ورجل ثالث، نظروا بعد رويّة أن ينزلوا على عهدهم وميثاقهم.
لما نزلوا واقترب منهم القوم، واستمكنوا منهم، جعلوا يطلقون أوتار قسيّهم، ليوثقوهم بها، فقيدوهم، وإذ فعلوا ذلك، قال الرجل الثالث: هذا أول الغدر والخيانة، والله لا أصحبكم، إن لي بمن استشهد من إخوتي هؤلاء أسوة حسنة. حاولوا أن يجروه غصْبا، فأبى واستعصى عليهم، ثم لم يروا محيصا غير قتله.
ثم إنهم انطلقوا بخبيب وصاحبه إلى مكة، وهم يعلمون أن معهم صيداً عظيما، سيفرح به أهل مكة، فيغنمون من هذا الصيد غُنما كبيرا، فلما بلغوا مكة، وذاع الخبر فيها، بمقدم هذين الأسيرين، كان له وقع جليل، وخاصة عند بني الحارث بن عامر بن نوفل، الذين قُتل أبوهم في يوم بدر، ولم يكن قاتلُه إلا خبيبا نفسه، القادم إليهم أسيرا مكبلا، فما كان منهم إلا أن سارعوا إلى ابتياعه بثمن غالٍ، وساقوه إلى دارهم وهم شامتون.
لبث خبيب عندهم أسيرا، لا يلقى ما للأسرى من حق، ومن معاملة حسنة، فقد كان الحقد قد أعمى بني الحارث وأوغر صدورهم، وصدهم عما كان في الأعراف والأخلاق عند العرب، من إكرام الضيف، وإغاثة المنقطع، فكيف بالأسير الرهين المقيد. ويا لله من الأحقاد، وطمسها لأنوار البصائر، وتقسيتها للأكباد.
لما علم خبيب بإجماعهم على قتله، وضربهم لذلك موعداً، وتيقن أن لا خلاص له من هذا المصير، أراد أن يتهيأ لملاقاة ربه، فطلب إلى بعض بنات الحارث، مُوسى، ليقضي بها تفثه، إذ كان في حياته نظيفا متطهرا، قد اعتاد على النظافة والطهارة، ويريد عند الممات أن تصعد روحه إلى بارئها وهو نظيف طاهر كذلك، هكذا هو طبعه، وهكذا علّمه دينه. فأعطته ابنة الحارث الموسى. ثم كان أن دخل على خبيب صبي لها حتى أتاه، وهي غافلة عنه، فلما شعرت ودرت، طار لبها، واستطار قلبها، وظنت ظن السوء، فهَرَعت تجري إلى حيث صغيرها، فوجدت خبيبا قد أجلسه على فخذه، وهو يهش به ويناغيه، فهدأ رُوعها، وخفّ ما وقع بها من فزع، وأحس خبيب ذلك منها، فقال لها متعجبا: أتخشين أن أقتله؟! والله ما كنت لأفعلَ ذلك أبداً. فأخذت ولدها وانصرفت وهي ذاهلة لا تدري ماذا تقول.
ثم إنها أخذت تفكر في أمر هذا الأسير، وتقول في نفسها: ما أكرم وأنبلَ هذا الرجل، أشهد أن له خلقا ومروءة، وطال تفكيرها في شأنه، حتى قالت لنفسها لا شك أن له دينا حسنا يأمره بالإحسان والخير، والمعروف والعدل، وينهاه عن الشر والسوء، والمنكر والبغي. وما استقر تفكيرها حتى شعرت بتقصيرها تجاه ما يجب لأسيرها من الإكرام والإحسان، فعزمت على أن تذهب إليه، وتقدم له ما كان ينقصه من طعام وشراب، ولكنها ما إن بلغته حتى راعَها ما شاهدت وعاينت.
شاهدت في يد خبيب عنقوداً كبيرا من عنب، يأكل منه، وما بمكة حينئذٍ عنب، فضلا عن أن هذا ليس إبان موسمه، ولكن الله على كل شيء قدير، يرزق من يشاء من عباده بغير تقتير. فانصرفت وقد أخذ منها العجب والدَّهَش، قائلة: أنّى له هذا؟! أنى له هذا؟! وذلك قبل أن يتبين لها الإسلام واليقين، وترى الحقائق بنور الإيمان المبين.
لقد حان الحَيْن، وقَرُب البَيْن، واقترب الوعد الحق، الذي ينتظره خبيب من ربه، وهو لا يبالي بشيءٍ في سبيله، إنهم قد خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحلِّ، لم يجُل في خاطر خبيب يومئذٍ، ولم يذكر شيئاً من دنياه، إلا شيئاً واحداً هو عنده أغلى وأهم ما في الدنيا جميعا، ذلك الشيء هو الصلاة، أراد أن تكون آخر عهده بالدنيا، واشتاق قبل موته أن يسجد لله مولاه، فقال لهم: دعوني أُصلِ ركعتين. فتركوه وما أراد، فصلى ركعتين تجوَّز فيهما رغما عنه، وهو يود لو أطال، ولكنّ هناك سببا، في نفسه منعه، إذ قال لهم بعد أن فرغ من صلاته: والله لولا أن تحسبوا أن بي جزعا من الموت، لأطلت في صلاتي. ثم دعا عليهم بهذه الدعوة المخيفة المرعبة، التي أزعجت الكافرين: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحداً.
اشتد غضبهم إذ ذاك، وأزمعوا أن يصلبوه على جذوع النخل، ويشدوه إليها، وجاءوا من أمامه وفي أيديهم السيوف والرماح والحِراب، وفي وجوههم غلظة وغيظ وجفاء، وقال له بعضهم هازئاً: أتحب أن محمداً مكانك وأنت في أهلك سليم معافى؟ قال: والله ما أحب أني في أهلي، ويصاب محمدٌ رسول الله بشوكة. اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة بما يصنع بنا.
أبلغ الوحي رسولَ الله بأمر خبيب، فقال بينما هو جالس مع أصحابه: وعليك السلام يا خبيب، قتلته قريش.
ثم قُتل خبيب، ولحق بالرفيق الأعلى، ونفسه راضية مرضية، وكان آخر ما صَدَع به هذين البيتين، اللذين كانا خير ردٍّ منه على قاتليه:
ولست أبالي حين أُقتلُ مسلماً على أيِّ جَنبٍ كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإنْ يشأ يبارك على أوصالِ شِلْوٍ مُمزّعِ
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
حين ننظر إلى المتقاعدين في قطر، لا نراهم خارج إطار العطاء، بل نراهم ذاكرة الوطن الحية، وامتداد مسيرة بنائه منذ عقود. هم الجيل الذي زرع، وأسّس، وساهم في تشكيل الملامح الأولى لمؤسسات الدولة الحديثة. ولأن قطر لم تكن يومًا دولة تنسى أبناءها، فقد كانت من أوائل الدول التي خصّت المتقاعدين برعاية استثنائية، وعلاوات تحفيزية، ومكافآت تليق بتاريخ عطائهم، في نهج إنساني رسخته القيادة الحكيمة منذ أعوام. لكن أبناء الوطن هؤلاء «المتقاعدون» لا يزالون ينظرون بعين الفخر والمحبة إلى كل خطوة تُتخذ اليوم، في ظل القيادة الرشيدة لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله – فهم يرون في كل قرار جديد نبض الوطن يتجدد. ويقولون من قلوبهم: نحن أيضًا أبناؤك يا صاحب السمو، ما زلنا نعيش على عهدك، ننتظر لمستك الحانية التي تعودناها، ونثق أن كرمك لا يفرق بين من لا يزال في الميدان، ومن تقاعد بعد رحلة شرف وخدمة. وفي هذا الإطار، جاء اعتماد القانون الجديد للموارد البشرية ليؤكد من جديد أن التحفيز في قطر لا يقف عند حد، ولا يُوجّه لفئة دون أخرى. فالقانون ليس مجرد تحديث إداري أو تعديل في اللوائح، بل هو رؤية وطنية متكاملة تستهدف الإنسان قبل المنصب، والعطاء قبل العنوان الوظيفي. وقد حمل القانون في طياته علاوات متعددة، من بدل الزواج إلى بدل العمل الإضافي، وحوافز الأداء، وتشجيع التطوير المهني، في خطوة تُكرس العدالة، وتُعزز ثقافة التحفيز والاستقرار الأسري والمهني. هذا القانون يُعد امتدادًا طبيعيًا لنهج القيادة القطرية في تمكين الإنسان، سواء كان موظفًا أو متقاعدًا، فالجميع في عين الوطن سواء، وكل من خدم قطر سيبقى جزءًا من نسيجها وذاكرتها. إنه نهج يُترجم رؤية القيادة التي تؤمن بأن الوفاء ليس مجرد قيمة اجتماعية، بل سياسة دولة تُكرم العطاء وتزرع في الأجيال حب الخدمة العامة. في النهاية، يثبت هذا القانون أن قطر ماضية في تعزيز العدالة الوظيفية والتحفيز الإنساني، وأن الاستثمار في الإنسان – في كل مراحله – هو الاستثمار الأجدر والأبقى. فالموظف في مكتبه، والمتقاعد في بيته، كلاهما يسهم في كتابة الحكاية نفسها: حكاية وطن لا ينسى أبناءه.
8802
| 09 أكتوبر 2025
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا صحفيًا لا وجود فيه للصحافة؟ منصة أنيقة، شعارات لامعة، كاميرات معلّقة على الحائط، لكن لا قلم يكتب، ولا ميكروفون يحمل شعار صحيفة، ولا حتى سؤال واحد يوقظ الوعي! تتحدث الجهة المنظمة، تصفق لنفسها، وتغادر القاعة وكأنها أقنعت العالم بينما لم يسمعها أحد أصلًا! لماذا إذن يُسمّى «مؤتمرًا صحفيًا»؟ هل لأنهم اعتادوا أن يضعوا الكلمة فقط في الدعوة دون أن يدركوا معناها؟ أم لأن المواجهة الحقيقية مع الصحفيين باتت تزعج من تعودوا على الكلام الآمن، والتصفيق المضمون؟ أين الصحافة من المشهد؟ الصحافة الحقيقية ليست ديكورًا خلف المنصّة. الصحافة سؤالٌ، وجرأة، وضمير يسائل، لا يصفّق. فحين تغيب الأسئلة، يغيب العقل الجمعي، ويغيب معها جوهر المؤتمر ذاته. ما معنى أن تُقصى الميكروفونات ويُستبدل الحوار ببيانٍ مكتوب؟ منذ متى تحوّل «المؤتمر الصحفي» إلى إعلان تجاري مغلّف بالكلمات؟ ومنذ متى أصبحت الصورة أهم من المضمون؟ الخوف من السؤال. أزمة ثقة أم غياب وعي؟ الخوف من السؤال هو أول مظاهر الضعف في أي مؤسسة. المسؤول الذي يتهرب من الإجابة يعلن – دون أن يدري – فقره في الفكرة، وضعفه في الإقناع. في السياسة والإعلام، الشفافية لا تُمنح، بل تُختبر أمام الميكروفون، لا خلف العدسة. لماذا نخشى الصحفي؟ هل لأننا لا نملك إجابة؟ أم لأننا نخشى أن يكتشف الناس غيابها؟ الحقيقة الغائبة خلف العدسة ما يجري اليوم من «مؤتمرات بلا صحافة» هو تشويه للمفهوم ذاته. فالمؤتمر الصحفي لم يُخلق لتلميع الصورة، بل لكشف الحقيقة. هو مساحة مواجهة بين الكلمة والمسؤول، بين الفعل والتبرير. حين تتحول المنصّة إلى monologue - حديث ذاتي- تفقد الرسالة معناها. فما قيمة خطاب بلا جمهور؟ وما معنى شفافية لا تُختبر؟ في الختام.. المؤتمر بلا صحفيين، كالوطن بلا مواطنين، والصوت بلا صدى. من أراد الظهور، فليجرب الوقوف أمام سؤال صادق. ومن أراد الاحترام فليتحدث أمام من يملك الجرأة على أن يسأله: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟
4500
| 13 أكتوبر 2025
انتهت الحرب في غزة، أو هكذا ظنّوا. توقفت الطائرات عن التحليق، وصمت هدير المدافع، لكن المدينة لم تنم. فمن تحت الركام خرج الناس كأنهم يوقظون الحياة التي خُيّل إلى العالم أنها ماتت. عادوا أفراداً وجماعات، يحملون المكان في قلوبهم قبل أن يحملوا أمتعتهم. رأى العالم مشهدًا لم يتوقعه: رجال يكنسون الغبار عن العتبات، نساء يغسلن الحجارة بماء بحر غزة، وأطفال يركضون بين الخراب يبحثون عن كرة ضائعة أو بين الركام عن كتاب لم يحترق بعد. خلال ساعات معدودة، تحول الخراب إلى حركة، والموت إلى عمل، والدمار إلى إرادة. كان المشهد إعجازًا إنسانيًا بكل المقاييس، كأن غزة بأسرها خرجت من القبر وقالت: «ها أنا عدتُ إلى الحياة». تجاوز عدد الشهداء ستين ألفًا، والجراح تزيد على مائة وأربعين ألفًا، والبيوت المدمرة بالآلاف، لكن من نجا لم ينتظر المعونات، ولم ينتظر أعذار من خذلوه وتخاذلوا عنه، ولم يرفع راية الاستسلام. عاد الناس إلى بقايا منازلهم يرممونها بأيديهم العارية، وكأن الحجارة تُقبّل أيديهم وتقول: أنتم الحجارة بصمودكم لا أنا. عادوا يزرعون في قلب الخراب بذور الأمل والحياة. ذلك الزحف نحو النهوض أدهش العالم، كما أذهله من قبل صمودهم تحت دمار شارك فيه العالم كله ضدهم. ما رآه الآخرون “عودة”، رآه أهل غزة انتصارًا واسترجاعًا للحق السليب. في اللغة العربية، التي تُحسن التفريق بين المعاني، الفوز غير النصر. الفوز هو النجاة، أن تخرج من النار سليم الروح وإن احترق الجسد، أن تُنقذ كرامتك ولو فقدت بيتك. أما الانتصار فهو الغلبة، أن تتفوق على خصمك وتفرض عليه إرادتك. الفوز خلاص للنفس، والانتصار قهر للعدو. وغزة، بميزان اللغة والحق، (فازت لأنها نجت، وانتصرت لأنها ثبتت). لم تملك الطائرات ولا الدبابات، ولا الإمدادات ولا التحالفات، بل لم تملك شيئًا البتة سوى الإيمان بأن الأرض لا تموت ما دام فيها قلب ينبض. فمن ترابها خُلِقوا، وهم الأرض، وهم الركام، وهم الحطام، وها هم عادوا كأمواج تتلاطم يسابقون الزمن لغد أفضل. غزة لم ترفع سلاحًا أقوى من الصبر، ولا راية أعلى من الأمل. قال الله تعالى: “كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ”. فانتصارها كان بالله فقط، لا بعتاد البشر. لقد خسر العدو كثيرًا مما ظنّه نصرًا. خسر صورته أمام العالم، فصار علم فلسطين ودبكة غزة يلفّان الأرض شرقًا وغربًا. صار كلُّ حر في العالم غزاويًّا؛ مهما اختلف لونه ودينه ومذهبه أو لغته. وصار لغزة جوازُ سفرٍ لا تصدره حكومة ولا سلطة، اسمه الانتصار. يحمله كل حر وشريف لايلزم حمله إذنٌ رسمي ولا طلبٌ دبلوماسي. أصبحت غزة موجودة تنبض في شوارع أشهر المدن، وفي أكبر الملاعب والمحافل، وفي اشهر المنصات الإعلامية تأثيرًا. خسر العدو قدرته على تبرير المشهد، وذهل من تبدل الأدوار وانقلاب الموازين التي خسرها عليها عقوداً من السردية وامولاً لا حد لها ؛ فالدفة لم تعد بيده، والسفينة يقودها أحرار العالم. وذلك نصر الله، حين يشاء أن ينصر، فلله جنود السماوات والأرض. أما غزة، ففازت لأنها عادت، والعود ذاته فوز. فازت لأن الصمود فيها أرغم السياسة، ولأن الناس فيها اختاروا البناء على البكاء، والعمل على العويل، والأمل على اليأس. والله إنه لمشهدُ نصر وفتح مبين. من فاز؟ ومن انتصر؟ والله إنهم فازوا حين لم يستسلموا، وانتصروا حين لم يخضعوا رغم خذلان العالم لهم، حُرموا حتى من الماء، فلم يهاجروا، أُريد تهجيرهم، فلم يغادروا، أُحرقت بيوتهم، فلم ينكسروا، حوصرت مقاومتهم، فلم يتراجعوا، أرادوا إسكاتهم، فلم يصمتوا. لم… ولم… ولم… إلى ما لا نهاية من الثبات والعزيمة. فهل ما زلت تسأل من فاز ومن انتصر؟
2727
| 14 أكتوبر 2025