رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

سعدية مفرح

كاتبة كويتية

مساحة إعلانية

مقالات

276

سعدية مفرح

في غزة.. الهدوء ليس استراحة

06 أكتوبر 2025 , 01:38ص

في غزة، ليس ثمة خيارات متاحة بالمعنى المألوف للكلمة، ولا مسارات آمنة يمكن أن يسلكها المرء ليتفادى كلفة القرار. هناك، كل خطوة محسوبة بدم، وكل نفس مرهون بإرادة لا تضعف، حتى حين تبدو محاصرة بين موتٍ معلن وحياةٍ مؤجلة. 

في غزة، الهدوء ليس استراحة، والهدنة ليست طمأنينة، والحرب ليست فقط ساحة رصاص وقنابل، بل امتحان مستمر لجوهر المعنى نفسه: معنى أن تكون، ومعنى أن تصمد، ومعنى أن تحمل الحقيقة على كتفيك ولو أثقلتك الأرض كلها.

حين تُعرض على غزة هدنة طويلة، يُسأل أهلها عن ثمن الصمت؛ كيف يرضون بتجميد جرح مفتوح، وحين يرفضون الهدنة ويمضون في خيار الحرب، يأتي السؤال من الضفة الأخرى؛ ماذا عن دماء الشهداء الذين يسقطون كل ساعة؟ أما إذا قرروا أن يتشبثوا بصمود صامت، لا اتفاق فيه ولا هدنة ولا مساومة، فيُتهمون بأنهم يلقون بمصير الأبرياء إلى المجهول. غزة دائمًا في قفص الأسئلة.

وكلما أجابت على سؤال، تفرّع منه سؤال جديد، بينما الذين يلقون هذه الأسئلة يجلسون في مأمن بعيد، لا يصل إليهم الدخان ولا يلامس وجوههم الرماد، ومع ذلك يوزّعون شهادات النصر والهزيمة وكأنها أوراق امتحان.

لكن، من يملك حق وضع معايير النصر أصلًا؟ هل يكفي أن يتوقف القصف حتى يُقال إنهم انتصروا؟ أم أن النصر هو الثبات على الحق، ولو هُدمت البيوت فوق ساكنيها؟ أم أن الانتصار الحقيقي يتجلى حين تتحول الشهادة إلى معنى يتجاوز الموت، ويصير الدم مدادًا يكتب التاريخ بدل أن يُمحى به؟ 

في غزة، كل هذه الأسئلة تتشابك، حتى يفقد المرء القدرة على التمييز بين هدنة وانفجار، بين صفقة واستمرار، وبين ما يُكتب على الورق وما يُكتب بالدم.

الهدنة قد تمنح لحظة تنفس، لكنها قد تحمل أيضًا سمّ الانتظار الطويل. والحرب قد تكون دفاعًا عن كرامة، لكنها تفتح أبواب الفقد على مصاريعها. والصمت قد يبدو حيادًا، لكنه في غزة يصبح لغة أخرى للمقاومة، لغة لا تُترجم بسهولة للغرباء. في غزة، لا تُقاس الأمور بميزان الربح والخسارة كما يفعل المحللون الباردون في نشراتهم المسائية، بل بميزان أثقل؛ بوزن الطفل الذي يعود جثةً بين ذراعي أمه، أو بوزن أمٍّ تقرأ أسماء أولادها على لائحة الشهداء، أو بوزن شيخٍ يفتح باب بيته المهدّم كأنه ما زال بيتًا، ويجلس أمامه ليعلن أن المكان ما زال قائمًا ما دام قلبه يخفق.

ما لا يفهمه كثيرون أن غزة لا تبحث عن الانتصار في تعريفات الآخرين، ولا تنتظر ختمًا دوليًا يمنحها شرعية الصمود. غزة تعرّف النصر بطريقتها الخاصة؛ أن يظل طفلها يحلم،  وأن تظل شوارعها قادرة على استقبال الأقدام ولو غمرها الركام. النصر في غزة لا يُقاس بالمساحات التي تُسترد، بل بالمعنى الذي يُسترد من قلب الموت.وربما لهذا السبب، لا يمكن أن تُحاصر غزة حقًا، حتى لو أحاطتها الجدران والأسلاك. فثمة مساحة في داخلها لا يستطيع أحد الوصول إليها؛ مساحة الإيمان بأن للحق وزنًا أثقل من كل الدبابات، وأن الدم حين يسيل يصبح ملكًا للتاريخ، لا لقاتله. 

هناك، يصبح الصبر لغة يومية، ويتحول الانتظار من فعل سلبي إلى طقس حياة، ويتحوّل الخوف نفسه إلى شجاعة متجددة.

نعم.. لا يملك أهل غزة إلا أن يستمروا في اختبار هذه المعاني، مرة بعد مرة. يُدركون أن طريقهم مليء بالفقد، لكنهم يعرفون أيضًا أن لا شيء يضيع حين يتحوّل الموت نفسه إلى معنى جامع للحياة. فغزة لا تعيش لتنتصر بالمعايير الجاهزة، بل لتُبقي معنى الانتصار حيًّا، متجددًا، عصيًّا على المصادرة.

هكذا، يظل المرء في غزة بين ثلاثة احتمالات؛ أن يصمد وينتصر، أن يستشهد وينتصر، أو أن ينتظر وينتصر. وكل احتمال منها، على قسوته، لا يُختصر بكلمة واحدة، بل يتوسع ليشمل تاريخًا كاملاً من المقاومة والمعنى. أما الآخرون، فسيظلون يسألون ويحللون، من بعيد، غير مدركين أن غزة ليست مجرد قضية مطروحة على الطاولة، بل تجربة وجودية تتجاوز حدود الجغرافيا. تجربة تُلزم كل من ينظر إليها أن يعيد النظر في معنى النصر، ومعنى الحياة نفسها.

مساحة إعلانية