رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
منهم من سماها بقمة النوم ومنهم من قال عنها أنها قمة الصالونات والمجاملات ومنهم من أطلق على جامعة الدول العربية صفة "اللاعدل" نظرا لسيطرة حفنة من الدول على قراراتها وسياساتها واستراتيجياتها والهيمنة على لجانها ومكاتبها. بعد سبعة عقود ما زالت جامعة الدول العربية تراوح نفسها وتتخبط في جملة من التناقضات التي تقضي في المهد على العمل المشترك الناجح والفعال. ثقافة التناوب عند العرب وثقافة الديمقراطية في مؤسسة تجمعهم من أجل وضع استراتيجيات العلاقات السياسية والدولية والاقتصادية بين الدول العربية فيما بينها ومع باقي دول العالم ما زالت قائمة وما زالت في صميم فشل أي مبادرة ناجحة تصب في صالح جميع دول المنظمة. فتسيير المنظمة وإدارتها بعيد كل البعد عن الديمقراطية وعن العمل العربي المشترك الفعال. فالمنظمة تُدار وكأنها مؤسسة توزيع رواتب وامتيازات وكفى. فمبدأ أن يكون الأمين العام لجامعة الدول العربية من بلد المقر خطأ ويتناقض جملة وتفصيلا مع العمل الديمقراطي والتناوب على المنصب وإعطاء فرص لكفاءات موجودة في 21 دولة عربية. وهناك عشرات بل مئات المنظمات في العالم لم تفرض على أعضائها أن يكون الأمين العام أو المدير أو الرئيس من بلد مقر المنظمة. فالاتحاد الأوروبي وإيمانا منه بالديمقراطية والتناوب على إدارته جعل منصب الأمين العام بالتناوب. وهذا ما يقودنا للقول أن إدارة جامعة الدول العربية تحتاج إلى إعادة النظر. وما ينسحب على الأمين العام ينسحب على اللجان كذلك حيث نجد تمركزها في حفنة من الدول. فكيف نتكلم عن الديمقراطية وعن العمل العربي المشترك في ظل تناقضات كبيرة وصارخة في الجهاز نفسه.
قمم ولقاءات واجتماعات تتوالى وتتكرر وبيانات ختامية تُصاغ وتُوزع على الصحافيين ووسائل الإعلام ورؤساء دول يغيبون عن القمة التي أصبحت بلا معنى وبلا أهمية تذكر. عمل عربي مشترك يعاني من الضعف والركاكة وعدم الفاعلية منذ عقود. قمة نواكشوط جاءت في أوج الرداءة والانحطاط والأزمات والحروب والانقسامات. الوضع في العراق وسوريا وليبيا واليمن وفلسطين يثير القلق ويطرح عدة تساؤلات عن الوضع الذي آلت إليه الأمة العربية. حالة التردي العربي الرسمي عكسته قمة نواكشوط المسماة قمة الأمل والتي تغيب عن حضورها أكثر من ثلثي رؤساء وملوك وزعماء الدول العربية، فيما اختصر جدولها من يومين إلى يوم واحد لتخرج في نهاية المطاف ببيان لا يرقى إلى تلبية مصالح الأمة العربية".
الظروف الني جاءت فيها جامعة الدول العربية في سنة 1945 تختلف تماما عن ظروف اليوم، ما يحتم على العرب إعادة النظر في ميثاق الجامعة وفي أمور إدارتها وهيكلتها وتنظيمها. وأول خطوة في التغيير وإعادة الهيكلة هو وضع استراتيجية ورؤية واضحة مبنية على أسس ديمقراطية في المقام الأول، بمعنى عدم إعطاء الفرصة لأي كان أن يستحوذ على الجامعة ويجعل منها مملكته ومؤسسته الخاصة لإدارتها وفق مصالحه وأهوائه. فالجامعة بحاجة إلى ثقافة التناوب وثقافة الديمقراطية أي أن القرارات لا يجب أن تملى من قبل دول معينة داخل المنظمة وإنما يجب أن تكون مبنية على آليات تتسم بالشفافية والوضوح ومصلحة ال 22 دولة المكونة للمنظمة. بالنسبة للجان والهيئات الفرعية للمنظمة يجب كذلك توزيعها بالتساوي وعلى الجميع ونفس الشي بالنسبة للموظفين ورؤساء اللجان والهيئات الفرعية.
فلماذا تحتم وتفرض مصر أحمد أبو الغيط على العرب؟ وزير خارجية النظام المصري السابق نظام حسني مبارك أثبت فشله وولاءه للكيان الصهيوني. هل يعني هذا أن هناك أجندة مبرمجة ومسطرة. هل سيستطيع أبو الغيط صاحب 77 سنة أن يوجه بوصلة جامعة الدول العربية في الاتجاه السليم والمنطقة تمر بأسوأ مرحلة في تاريخها؛ دول على وشك الانهيار وتحديات جمة وضخمة أمنية واقتصادية وسياسية واجتماعية ...الخ. أيعني هذا أن الدول العربية لا تتوفر على دبلوماسيين وساسة أكفاء ومؤهلين للقيام بالمهمة والمسؤولية على أحسن ما يرام. هل جامعة الدول العربية أصبحت بيت التقاعد ومكافأة نهاية الخدمة؟ مع الأسف الشديد ثقافة الاستمرار في الرداءة سائدة وإلا كيف نفسر تزكية الدول العربية قاطبة ما عدا تحفظ دولة قطر لشخص أبو الغيط. فمنذ سنة 1945 وجامعة الدول العربية قائمة على المجاملات وعلى المصالح الضيفة لبعض الفاعلين فيها؛ أما مصلحة شعوب الدول العربية فهي آخر ما يسأل عنه القائمون على الجامعة. استمرار جامعة الدول العربية في عدم قدرتها على إدارة الخلافات العربية هو تكريس الفشل وتكريس الرداءة وانتهاك لأحلام الشباب العربي من المحيط إلى الخليج، جامعة الدول العربية فشلت في التأقلم مع الربيع العربي والظروف التي تمر بها المنطقة.
تواجه جامعة الدول العربية انتقادات حادة ودعوات مكثفة للتغيير والتجديد والإصلاح لمواكبة التطورات والتغييرات التي شهدها العالم خلال السبعة عقود الماضية. والسؤال الذي يطرحه الكثيرون هو ماذا قدمته هذه المنظمة من أجل تحقيق الديمقراطية والحرية والتعاون الاقتصادي والثقافي والاجتماعي بين الدول العربية من المحيط إلى الخليج؟ أين هي المشاريع المشتركة وأين هي العملة الموحدة وأين هي السوق العربية المشتركة؟ وأين هي عملية إلغاء التأشيرات وفتح الحدود بين الإخوة والأشقاء؟ أين هي السكك الحديدية والربط الكهربائي والطرق السريعة والخطوط الجوية والبحرية التي تربط الدول العربية بعضها ببعض. كيف نحقق التكامل السياسي والعمل العربي المشترك في غياب التكامل الاقتصادي والتجارة البينية بين أعضاء جامعة الدول العربية؟ مع العلم أن هناك عوامل عدة تساعد هذا التكامل والتعاون البيني والتي تتمثل في التاريخ واللغة والدين والحضارة المشتركة بين أعضاء الجامعة.
تواجه جامعة الدول العربية اليوم، أكثر من أي وقت مضى، مشكلة إعادة الهيكلة والتنظيم والإصلاح والتغيير والتأقلم والتكيف مع الظروف الجديدة التي يعيشها العالم وضرورة تطبيق ديمقراطية صناعة القرار بداخلها وخروجها من الروتين والبيروقراطية إلى العمل الجاد والفعال على مختلف الأصعدة. فبعد ثورات الربيع العربي والحراك السياسي والاجتماعي الذي نجم عنها ونظرا للمشاكل التي تعاني منها عدة دول عربية فلا حل أمام منظمة العرب سوى الإصلاح والتغيير. فميثاق الجامعة واللوائح التي تحكمها وتديرها أُقرت في الأربعينات من القرن الماضي وهذا يعني أن هذه القوانين بحاجة أن تُغير وتُجدد وفق التطورات العديدة والمختلفة التي شهدتها الدول العربية في السنوات القليلة الماضية. قمم الجامعة أصبحت روتينية شكلية وبروتوكولية وحتى آليات العمل فيها غير مبنية على أسس علمية ديمقراطية وفعالة. فالجامعة، مع الأسف الشديد، تعكس وضع الأنظمة العربية نفسها. فقوانينها ومواثيقها ما زالت كما جاءت في الأربعينات من القرن الماضي بدون تطوير ولا تغيير. وحتى موضوع تدوير منصب الأمين العام للجامعة ورؤساء اللجان والمديرين وكبار المسؤولين فيها لم يُبت فيه بطريقة صريحة ومسؤولة وملتزمة. وإذا نظرنا إلى معظم المنظمات الإقليمية والجهوية والقارية والدولية في العالم نلاحظ ديمقراطية وإنصافا وعدالة وموضوعية وشفافية في توزيع المناصب والمسؤوليات. وهذا إن دل على شيء إنما يدل على انعدام الرشد والرؤية وروح الديمقراطية في إدارة شؤون جامعة الدول العربية. فالاختلاف ظاهرة صحية في أي منظمة يتطلب قدرة كبيرة على إدارته وتحويله إلى مصدر قوة وإلهام ونجاح.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6180
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3747
| 21 أكتوبر 2025