رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
قرعت الأنباء أُذني أبي ذر الغفاري، بظهور رجل بمكة، يزعم أنه نبي، ويدعو إلى عبادة الله وحدَه، وعدم الإشراك به، وقد كان أبو ذر رجلا ممن أنفوا التعبد للأوثان في الجاهلية، واعتقدوا بوجود الله العظيم، خالق كل شيء سبحانه، فلم يكد يسمع بتلك الأنباء حتى أراد أن يعلم ما هو خبر ذلك الرجل النبي، وما هي دعوته.. وأراد أن يستوثق من حقيقة الأمر، ويكون على بينة منه، فطلب إلى أخيه أُنيس أن يذهب إلى مكة ليأتيه بالخبر اليقين، ولا يبطئن ولا يشعرن به أحداً، فقال أنيس لأخيه أبي ذر: لبيك يا أخي. وانطلق صَوْب مكة ليعلمَ له خبر محمد عليه الصلاة والسلام، حتى بلغها ومكث فيها قليلا، يستقصي الأخبار، وما لبث أن عاد مسرعا إلى أخيه، فلما رآه أبو ذر قال: ما عندك؟ قال: والله لقد رأيت رجلا، يأمر بالخير، وينهى عن الشر، ويدعو إلى مكارم الأخلاق. ولكن أبا ذر قال: لم تشفني من الخبر.
فرأى أن يذهب هو بنفسه إلى مكة، وأعد راحلته، واحتمل قطع البيد، ومشقة الرحيل إلى أن قدم مكة، ودخلها وأراد في نفسه ألا يعلم أحد سبب مقدمه، فأخفى حاجته، ولم يأخذ في السؤال عن رسول الله، حتى يبدو له الأمر بنفسه ويظهر له، وكان أبو ذر في أثناء إقامته يشرب من ماء زمزم، لا يدخل جوفه شيء سواه فكان فيه كل الغَناء، وجعل يجلس في المسجد الحرام، فمر به يوما علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فقال له: كأن الرجلَ غريب. قال: نعم. فاستدعاه علي من ثم إلى منزله وأضافه ثلاثة أيام، لا يسأل أحدهما صاحبه عن شيء، وفي اليوم الثالث قال علي لأبي ذر: ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ قال: إنْ كتمت علي أخبرتك. قال علي: فإني أفعل. فأنشأ أبو ذر يقول: بلغنا أنه قد خرج ههنا رجل يزعم أنه نبي، فأرسلت أخي ليعرف خبره، فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه. قال علي: أمَا إنك قد رَشَدت، هذا وجهي إليه فاتبعني، ادخل حيث أدخل، وإني إن رأيت أحداً أخافه عليك، قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي، وامضِ أنت.
فمضى علي ومعه أبو ذر، حتى دخلا على النبي عليه الصلاة والسلام، فطلب أبو ذر منه أن يعرض عليه الإسلام، فعرضه وما أبطأ أن أسلم أبو ذر، ثم قال له رسول الله "يا أبا ذر، اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل"، قال: والذي بعثك بالحق، لأصرخنّ بها بين أظهرهم، فجاء إلى الكعبة وحولها قريش، فقال بأعلى صوته: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فقال القوم: قوموا إلى هذا الصابئ، فقاموا إليه وأوسعوه ضربا، وكان قريبا من هذا المشهد، العباس عم النبي، فأقبل وأدرك أبا ذر، قائلا لقريش ليكفوا عن ضربه: ويلكم، تقتلون رجلا من غِفار، ومتجركم وممركم على غفار. فأقلعوا عنه وتركوه، وفي الغد عاد أبو ذر إلى مثل ما قال بالأمس، فكان من قريش مثل فعلهم الأول، وكان من العباس أيضا، مثل فعله أول مرة.
ذلك هو أبو ذر، رضي الله عنه، منذ أن أسلم، لا يخشى ولا يبالي شيئا أبدا في سبيل الجهر بالحق والصدق، وإن كان فيه ذهاب نفسه، فاستحق لذلك، أن يقول فيه رسول الله "ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء أصدقَ لهجةً من أبي ذر".
عاد أبو ذر من بعدُ إلى قومه وبلده، كما أمره النبي، وجعل هناك يدعو عشيرته، وأبناء غفار جميعا إلى ما تدعو إليه مبادئ الإسلام وأصوله، من مكارم الأخلاق والفضائل مما يرتكز عليه الدين، حتى أخذ نور الإسلام ينتشر وينير العقول، فأسلم الكثير منهم رجالا ونساء، ثم انتقل أبو ذر إلى قبيلة (أسلم)، المجاورة لهم، وكان أن رددوا صدى نداء الإسلام بأفئدتهم وأسلموا كما أسلمت غفار.
في يوم من الأيام بعد واقعة الخندق، أزمع أبو ذر الهجرة إلى المدينة، بعد أن ظهر فيها أمر الإسلام، وصار للمسلمين دولة وكيان، منفذا وصية رسول الله له يوم إسلامه، وسار معه من أسلم من قبيلتي غفار وأسلم، وقدموا جميعا في جمع غفير على النبي، فلما رأى عليه الصلاة والسلام، أبا ذر، روي أنه وَهِمَ في اسمه فقال: أنت أبو نملة. فقال له: أنا أبو ذر، يا رسول الله. فقال: نعم، أبو ذر. ولعل النبي أحب مداعبته فيما قاله، والذَّر معروف أنه صغار النمل. ثم ألقى رسول الله نظرة على وفود غفار وأسلم، مملوءة بالرحمة والعطف لهم، والرضا والشكر لله، وقال داعيا لهم "غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله". ولقد كانت أيضا لرسول الله نظرةٌ ملهَمة بوحي السماء توجه بها إلى أبي ذر، استشف من خلالها طبيعة نفس أبي ذر، وعلم الصفة التي ستحكم حياته في الإسلام ويحيا عليها إلى أن يلقى وجه ربه الكريم، ألا وهي صفة الزهد، فكان أن قال عليه الصلاة والسلام "أبو ذر في أمتي، على زهد عيسى بن مريم"، ولقد تحقق هذا القول، وصَدُق أيَّ صدق في حياة أبي ذر، فلم تلهه الدنيا بزينتها وزخارفها، ولم تفتنه بمظاهرها ومباهجها، فيتغير من ثم ويغتر، بل عاش حياته في حدود معنى الزهد، داعيا إلى فكرته، معلنا الحرب المستعرة على طغيان حب المادة والمال، وتطاول معاني الترف والثراء. كان يرى أن خير الناس هم الزاهدون، وأن يوم فقر الإنسان الحقيقي، هو يوم يوضع في القبر، كما يرى أن كثرة المال تستلزم وتستوجب شدة الحساب، فمن أقواله: ذو الدرهمين أشد حسابا من ذي الدرهم. وكان عنده أن في الأموال ثلاثةَ شركاء، هم كما قال: القدر: لا يستأمرك أن يذهب بخيرها أو شرها، من هلاك أو موت. والوارث: ينتظر أن تضع رأسك، ثم يستاقها وأنت ذميم. وأنت الثالث: فإن استطعت ألا تكون أعجز الثلاثة، فلا تكونن، فإن الله عز وجل يقول (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون).
يرحم الله أبا ذر
لما دنا أجله كان إلى جواره زوجه وهي تبكي بكاءً شديداً على زوجها الذي يموت وليس عنده كفن يسعه، فقال مهونا عليها «لا تبكي، فإني سمعت رسول الله، ذات يوم وأنا عنده في نفر من أصحابه، يقول: ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض، تشهده عصابة من المؤمنين، وكل من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية، ولم يبقَ منهم غيري، وهأنذا بالفلاة أموت، فراقبي الطريق فستطلع علينا عصابة من المؤمنين»، ثم فاضت روحه إلى الله، وسمت إلى عليين. فأطلت زوجه على الطريق مترقبة قدوم أحد، فما لبثت طويلا أن رأت قافلة آتية من بعيد تشق غبار الفلاة، حتى وقفت عندها، وكانت تلك القافلة تضم نفرا من المؤمنين، منهم عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، الذي رأى امرأة وبجوارها جثمان مسجى، فأقبل ليرى ما شأنها، ثم نظر وجه الميْت، فإذا به يرى صاحبه وصديقه أبا ذر، فأجهش بالبكاء بدمع غزير وطفق يقبله، وتذكر مقولة سمعها يوما مع الصحابة، من رسول الله، في أبي ذر، وهي قوله عليه الصلاة والسلام «يرحم الله أبا ذر، يمشي وحدَه، ويموت وحدَه، ويبعث وحده».
أبعد هذا الحديث قول يقال في حق أبي ذر، رضي الله عنه، أكبر منه وأعظم، هيهات هيهات، حقا إنه لرجل نسيج وَحْدِه.
إدراك وفهم عميقان لمعنى وحقيقة يوم القيامة، اليوم الذي تنقطع فيه كل الصلات والوشائج والعلاقات التي كانت بين... اقرأ المزيد
192
| 16 أكتوبر 2025
• فرحة التأهّل إلى كأس العالم هي فرحة بطعم خاص، بطعم استضافة كأس العالم 2022، ذلك الحدث التاريخي... اقرأ المزيد
183
| 16 أكتوبر 2025
في زمنٍ سريعٍ يركض بنا دون توقف، نعتقد أحيانًا أن ما نقوله أو نفعله يمرّ بلا أثر. غير... اقرأ المزيد
210
| 16 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
حين ننظر إلى المتقاعدين في قطر، لا نراهم خارج إطار العطاء، بل نراهم ذاكرة الوطن الحية، وامتداد مسيرة بنائه منذ عقود. هم الجيل الذي زرع، وأسّس، وساهم في تشكيل الملامح الأولى لمؤسسات الدولة الحديثة. ولأن قطر لم تكن يومًا دولة تنسى أبناءها، فقد كانت من أوائل الدول التي خصّت المتقاعدين برعاية استثنائية، وعلاوات تحفيزية، ومكافآت تليق بتاريخ عطائهم، في نهج إنساني رسخته القيادة الحكيمة منذ أعوام. لكن أبناء الوطن هؤلاء «المتقاعدون» لا يزالون ينظرون بعين الفخر والمحبة إلى كل خطوة تُتخذ اليوم، في ظل القيادة الرشيدة لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله – فهم يرون في كل قرار جديد نبض الوطن يتجدد. ويقولون من قلوبهم: نحن أيضًا أبناؤك يا صاحب السمو، ما زلنا نعيش على عهدك، ننتظر لمستك الحانية التي تعودناها، ونثق أن كرمك لا يفرق بين من لا يزال في الميدان، ومن تقاعد بعد رحلة شرف وخدمة. وفي هذا الإطار، جاء اعتماد القانون الجديد للموارد البشرية ليؤكد من جديد أن التحفيز في قطر لا يقف عند حد، ولا يُوجّه لفئة دون أخرى. فالقانون ليس مجرد تحديث إداري أو تعديل في اللوائح، بل هو رؤية وطنية متكاملة تستهدف الإنسان قبل المنصب، والعطاء قبل العنوان الوظيفي. وقد حمل القانون في طياته علاوات متعددة، من بدل الزواج إلى بدل العمل الإضافي، وحوافز الأداء، وتشجيع التطوير المهني، في خطوة تُكرس العدالة، وتُعزز ثقافة التحفيز والاستقرار الأسري والمهني. هذا القانون يُعد امتدادًا طبيعيًا لنهج القيادة القطرية في تمكين الإنسان، سواء كان موظفًا أو متقاعدًا، فالجميع في عين الوطن سواء، وكل من خدم قطر سيبقى جزءًا من نسيجها وذاكرتها. إنه نهج يُترجم رؤية القيادة التي تؤمن بأن الوفاء ليس مجرد قيمة اجتماعية، بل سياسة دولة تُكرم العطاء وتزرع في الأجيال حب الخدمة العامة. في النهاية، يثبت هذا القانون أن قطر ماضية في تعزيز العدالة الوظيفية والتحفيز الإنساني، وأن الاستثمار في الإنسان – في كل مراحله – هو الاستثمار الأجدر والأبقى. فالموظف في مكتبه، والمتقاعد في بيته، كلاهما يسهم في كتابة الحكاية نفسها: حكاية وطن لا ينسى أبناءه.
9036
| 09 أكتوبر 2025
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا صحفيًا لا وجود فيه للصحافة؟ منصة أنيقة، شعارات لامعة، كاميرات معلّقة على الحائط، لكن لا قلم يكتب، ولا ميكروفون يحمل شعار صحيفة، ولا حتى سؤال واحد يوقظ الوعي! تتحدث الجهة المنظمة، تصفق لنفسها، وتغادر القاعة وكأنها أقنعت العالم بينما لم يسمعها أحد أصلًا! لماذا إذن يُسمّى «مؤتمرًا صحفيًا»؟ هل لأنهم اعتادوا أن يضعوا الكلمة فقط في الدعوة دون أن يدركوا معناها؟ أم لأن المواجهة الحقيقية مع الصحفيين باتت تزعج من تعودوا على الكلام الآمن، والتصفيق المضمون؟ أين الصحافة من المشهد؟ الصحافة الحقيقية ليست ديكورًا خلف المنصّة. الصحافة سؤالٌ، وجرأة، وضمير يسائل، لا يصفّق. فحين تغيب الأسئلة، يغيب العقل الجمعي، ويغيب معها جوهر المؤتمر ذاته. ما معنى أن تُقصى الميكروفونات ويُستبدل الحوار ببيانٍ مكتوب؟ منذ متى تحوّل «المؤتمر الصحفي» إلى إعلان تجاري مغلّف بالكلمات؟ ومنذ متى أصبحت الصورة أهم من المضمون؟ الخوف من السؤال. أزمة ثقة أم غياب وعي؟ الخوف من السؤال هو أول مظاهر الضعف في أي مؤسسة. المسؤول الذي يتهرب من الإجابة يعلن – دون أن يدري – فقره في الفكرة، وضعفه في الإقناع. في السياسة والإعلام، الشفافية لا تُمنح، بل تُختبر أمام الميكروفون، لا خلف العدسة. لماذا نخشى الصحفي؟ هل لأننا لا نملك إجابة؟ أم لأننا نخشى أن يكتشف الناس غيابها؟ الحقيقة الغائبة خلف العدسة ما يجري اليوم من «مؤتمرات بلا صحافة» هو تشويه للمفهوم ذاته. فالمؤتمر الصحفي لم يُخلق لتلميع الصورة، بل لكشف الحقيقة. هو مساحة مواجهة بين الكلمة والمسؤول، بين الفعل والتبرير. حين تتحول المنصّة إلى monologue - حديث ذاتي- تفقد الرسالة معناها. فما قيمة خطاب بلا جمهور؟ وما معنى شفافية لا تُختبر؟ في الختام.. المؤتمر بلا صحفيين، كالوطن بلا مواطنين، والصوت بلا صدى. من أراد الظهور، فليجرب الوقوف أمام سؤال صادق. ومن أراد الاحترام فليتحدث أمام من يملك الجرأة على أن يسأله: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟
6702
| 13 أكتوبر 2025
انتهت الحرب في غزة، أو هكذا ظنّوا. توقفت الطائرات عن التحليق، وصمت هدير المدافع، لكن المدينة لم تنم. فمن تحت الركام خرج الناس كأنهم يوقظون الحياة التي خُيّل إلى العالم أنها ماتت. عادوا أفراداً وجماعات، يحملون المكان في قلوبهم قبل أن يحملوا أمتعتهم. رأى العالم مشهدًا لم يتوقعه: رجال يكنسون الغبار عن العتبات، نساء يغسلن الحجارة بماء بحر غزة، وأطفال يركضون بين الخراب يبحثون عن كرة ضائعة أو بين الركام عن كتاب لم يحترق بعد. خلال ساعات معدودة، تحول الخراب إلى حركة، والموت إلى عمل، والدمار إلى إرادة. كان المشهد إعجازًا إنسانيًا بكل المقاييس، كأن غزة بأسرها خرجت من القبر وقالت: «ها أنا عدتُ إلى الحياة». تجاوز عدد الشهداء ستين ألفًا، والجراح تزيد على مائة وأربعين ألفًا، والبيوت المدمرة بالآلاف، لكن من نجا لم ينتظر المعونات، ولم ينتظر أعذار من خذلوه وتخاذلوا عنه، ولم يرفع راية الاستسلام. عاد الناس إلى بقايا منازلهم يرممونها بأيديهم العارية، وكأن الحجارة تُقبّل أيديهم وتقول: أنتم الحجارة بصمودكم لا أنا. عادوا يزرعون في قلب الخراب بذور الأمل والحياة. ذلك الزحف نحو النهوض أدهش العالم، كما أذهله من قبل صمودهم تحت دمار شارك فيه العالم كله ضدهم. ما رآه الآخرون “عودة”، رآه أهل غزة انتصارًا واسترجاعًا للحق السليب. في اللغة العربية، التي تُحسن التفريق بين المعاني، الفوز غير النصر. الفوز هو النجاة، أن تخرج من النار سليم الروح وإن احترق الجسد، أن تُنقذ كرامتك ولو فقدت بيتك. أما الانتصار فهو الغلبة، أن تتفوق على خصمك وتفرض عليه إرادتك. الفوز خلاص للنفس، والانتصار قهر للعدو. وغزة، بميزان اللغة والحق، (فازت لأنها نجت، وانتصرت لأنها ثبتت). لم تملك الطائرات ولا الدبابات، ولا الإمدادات ولا التحالفات، بل لم تملك شيئًا البتة سوى الإيمان بأن الأرض لا تموت ما دام فيها قلب ينبض. فمن ترابها خُلِقوا، وهم الأرض، وهم الركام، وهم الحطام، وها هم عادوا كأمواج تتلاطم يسابقون الزمن لغد أفضل. غزة لم ترفع سلاحًا أقوى من الصبر، ولا راية أعلى من الأمل. قال الله تعالى: “كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ”. فانتصارها كان بالله فقط، لا بعتاد البشر. لقد خسر العدو كثيرًا مما ظنّه نصرًا. خسر صورته أمام العالم، فصار علم فلسطين ودبكة غزة يلفّان الأرض شرقًا وغربًا. صار كلُّ حر في العالم غزاويًّا؛ مهما اختلف لونه ودينه ومذهبه أو لغته. وصار لغزة جوازُ سفرٍ لا تصدره حكومة ولا سلطة، اسمه الانتصار. يحمله كل حر وشريف لايلزم حمله إذنٌ رسمي ولا طلبٌ دبلوماسي. أصبحت غزة موجودة تنبض في شوارع أشهر المدن، وفي أكبر الملاعب والمحافل، وفي اشهر المنصات الإعلامية تأثيرًا. خسر العدو قدرته على تبرير المشهد، وذهل من تبدل الأدوار وانقلاب الموازين التي خسرها عليها عقوداً من السردية وامولاً لا حد لها ؛ فالدفة لم تعد بيده، والسفينة يقودها أحرار العالم. وذلك نصر الله، حين يشاء أن ينصر، فلله جنود السماوات والأرض. أما غزة، ففازت لأنها عادت، والعود ذاته فوز. فازت لأن الصمود فيها أرغم السياسة، ولأن الناس فيها اختاروا البناء على البكاء، والعمل على العويل، والأمل على اليأس. والله إنه لمشهدُ نصر وفتح مبين. من فاز؟ ومن انتصر؟ والله إنهم فازوا حين لم يستسلموا، وانتصروا حين لم يخضعوا رغم خذلان العالم لهم، حُرموا حتى من الماء، فلم يهاجروا، أُريد تهجيرهم، فلم يغادروا، أُحرقت بيوتهم، فلم ينكسروا، حوصرت مقاومتهم، فلم يتراجعوا، أرادوا إسكاتهم، فلم يصمتوا. لم… ولم… ولم… إلى ما لا نهاية من الثبات والعزيمة. فهل ما زلت تسأل من فاز ومن انتصر؟
5913
| 14 أكتوبر 2025