رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. م. جاسم عبدالله جاسم ربيعة المالكي

نائب رئيس المجلس البلدي المركزي (سابقاً)

مساحة إعلانية

مقالات

354

د. م. جاسم عبدالله جاسم ربيعة المالكي

من دماء الشهداء إلى اعتراف بريطانيا.. فلسطين تصنع التاريخ بيدها

28 سبتمبر 2025 , 03:19ص

لم يكن اعتراف بريطانيا بدولة فلسطين حدثًا عابرًا في سياق الأخبار الدولية، بل هو لحظة تاريخية تحمل من الرمزية ما يعجز القلم عن وصفه. بريطانيا التي وقّعت بيدها وعد بلفور عام 1917، ذلك الوعد المشؤوم الذي فتح الباب أمام المشروع الصهيوني لإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، هي نفسها اليوم تعلن اعترافها الرسمي بدولة فلسطين على حدود 1967. إنها مفارقة التاريخ التي تؤكد أن النضال الطويل لا يضيع، وأن الدماء الزكية التي سالت عبر عقود من الاحتلال والتهجير والحصار تثمر ولو بعد حين. كفاح الشعب الفلسطيني.. أسطورة الصمود منذ نكبة 1948 مرورًا بنكسة 1967، ثم الانتفاضتين الأولى والثانية، وصولًا إلى جولات المقاومة في غزة والقدس، دفع الشعب الفلسطيني أثمانًا باهظة دفاعًا عن حقه في الأرض والهوية. عشرات الآلاف من الشهداء، أضعافهم من الجرحى والمعاقين، ملايين من الأسرى والمشردين واللاجئين، كل ذلك شكّل ملحمة إنسانية غير مسبوقة. لقد أصبح الفلسطينيون مثالًا عالميًا للصمود، حتى أن العالم الأوروبي ـ بكل ما فيه من تباينات ومصالح ـ لم يعد قادرًا على تجاهل هذا الواقع. لقد سطّر الفلسطينيون أسطورة حقيقية: شعب أعزل في كثير من الأحيان، يواجه واحدة من أقوى الترسانات العسكرية في العالم، لكنه يصرّ على التشبث بحقوقه رغم انحياز القوى الكبرى. هذه الأسطورة هي التي أجبرت الغرب على مراجعة مواقفه، وأجبرت لندن، التي منحت يومًا وعد بلفور، أن تمنح اليوم اعترافًا بحق الفلسطينيين في دولتهم.

الاعتراف البريطاني: نقض لوعد بلفور لا يمكن النظر إلى الاعتراف البريطاني إلا بوصفه تصحيحًا متأخرًا لجريمة سياسية عمرها أكثر من مائة عام. صحيح أن الاعتراف لا يخلق الدولة الفلسطينية من العدم، لكنه يضع إسرائيل أمام مأزق دولي متزايد. لقد أعلنت حكومة كير ستارمر أن الاعتراف يأتي لإحياء حل الدولتين، وأنه ليس مكافأة لحماس أو غيرها، بل هو استجابة لحق تاريخي للشعب الفلسطيني.

الرسالة الأهم هنا أن بريطانيا لم تعد تستطيع الاستمرار في معادلة «الحياد» المزيف أو الانحياز الأعمى لإسرائيل، بل اضطرت تحت ضغط الوقائع والتغيرات في الرأي العام العالمي، أن تعترف بأن الفلسطينيين أصحاب قضية شرعية.كندا وأستراليا.. جبهة جديدة للاعتراف: الأهمية لا تقف عند لندن وحدها؛ فقد تزامن الاعتراف مع إعلان كندا وأستراليا اعترافهما بدولة فلسطين. هذه الخطوة الثلاثية من دول كومنولث كبرى، تمثل تحولًا نوعيًا في المزاج السياسي الغربي. فهي المرة الأولى التي تُقدم فيها ثلاث دول متقدمة وذات وزن سياسي واقتصادي على اعتراف جماعي، ما يعكس نضوج قناعة مفادها أن استمرار إنكار الدولة الفلسطينية لم يعد ممكنًا.

هذا التناغم بين لندن وأوتاوا وكانبرا، يعطي الاعتراف زخمًا مضاعفًا، ويبعث برسالة قوية إلى بقية العواصم الأوروبية والعالمية بأن اللحظة قد حانت لتصحيح المسار. إلى جانب ذلك، برز الموقف الفرنسي مؤخرًا باعتباره تطورًا آخر لا يقل أهمية. فقد أعلن الرئيس الفرنسي في كلمته بالأمم المتحدة اعتراف بلاده بدولة فلسطين، فرنسا، بحكم وزنها الأوروبي والدولي، قادرة على دفع الاتحاد الأوروبي ككل نحو موقف أكثر جرأة. قد ينطلق داخل القارة العجوز، ليجر ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وغيرها من العواصم.

الشعوب العربية.. بين العاطفة والعجز الرسمي: المفارقة الكبرى أن هذه الاعترافات الغربية جاءت في وقت ما زالت فيه الأنظمة العربية مترددة في خطواتها العملية تجاه القضية الفلسطينية. الشعوب العربية عبرت في الميادين عن تضامنها، لكن المواقف الرسمية غالبًا ما بقيت حبيسة البيانات الإنشائية. بينما أوروبا، التي لا تجمعها بفلسطين روابط الدم والدين والجغرافيا، اتخذت خطوة عملية لم يقدم عليها كثير من العرب. هذا لا يعني أن العرب غائبون تمامًا، لكن الرسالة واضحة: العالم يحترم من «يقدّم التضحيات ويدفع ثمن قضيته»، والفلسطينيون هم الذين فعلوا ذلك.

أثر الاعترافات على إسرائيل: لا شك أن إسرائيل ستسعى إلى التقليل من شأن هذه الخطوات، واعتبارها رمزية أو بلا أثر عملي. لكنها تدرك في العمق أن الاعترافات المتتالية تضعها أمام عزلة متزايدة، وأن صورتها كـ»دولة فوق القانون» بدأت تتصدع. فحين تعترف ثلاث قوى كبرى بدولة فلسطين، ويقف وراءها تيار شعبي عالمي متنامٍ، فهذا يعني أن المشروع الصهيوني لم يعد محصنًا كما كان.

الاعتراف البريطاني ومعه الكندي والأسترالي، والفرنسي كلها نتائج مباشرة لنضال شعب فلسطين وتضحياته. هي ثمار دماء الشهداء وصمود الأسرى وصبر اللاجئين. إنها لحظة تؤكد أن الحق لا يضيع ما دام وراءه مطالب، وأن مقاومة الشعوب أقوى من جيوش الاحتلال.

بريطانيا التي أعطت وعد بلفور قبل قرن، عادت اليوم لتعترف بدولة فلسطين. وبين الوعدين تاريخ طويل من الجراح والآلام، لكنه أيضًا تاريخ من البطولة والإصرار. إنها رسالة إلى العالم أجمع: فلسطين تُصنع بدماء أبنائها، والعالم ـ ولو متأخرًا ـ لا بد أن يعترف بها.

مساحة إعلانية