رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. م. جاسم عبدالله جاسم ربيعة المالكي

نائب رئيس المجلس البلدي المركزي (سابقاً)

مساحة إعلانية

مقالات

102

د. م. جاسم عبدالله جاسم ربيعة المالكي

قطر تقود التحوّل الأممي.. فلسطين حقيقة لا يمكن إنكارها

24 سبتمبر 2025 , 04:53ص

أكد حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى في خطابه أمام الأمم المتحدة رسائل محورية: حماية الوساطة القطرية من محاولات التعطيل، صون الشرعية الدولية، والدفع نحو اعترافٍ أوسع بدولة فلسطين. وجاء الخطاب في لحظةٍ حساسة تشهد فيها غزة حربًا مستمرة منذ عامين، ليضع النقاط على الحروف ويثبت بوصلة الموقف القطري وسط أمواجٍ متلاطمة من الحسابات الإقليمية والدولية. وأوضح سموّه أن الهجوم الإسرائيلي على الدوحة مطلع الشهر الجاري كان يهدف إلى إفشال مسار وقف إطلاق النار الذي تتوسط فيه قطر، وهو ما يكشف أنّ الاستهداف يتجاوز البعد الأمني إلى محاولة نسف عملية السلام برمتها.

هذا التأشير إلى “تعويق الوساطة” لا ينفصل عن سياقٍ أمميّ أوسع؛ إذ انعقدت الجلسة الافتتاحية للدورة الثمانين للجمعية العامة تحت ثقل ملف غزة، حيث تصدّرت صور الدمار ونُذر المجاعة كلمات القادة، فيما ارتفعت نبرة الأسئلة حول جدوى المنظومة الدولية إذا عجزت عن حماية المدنيين وعن فرض هدنة مستدامة. في هذا المشهد، كانت مشاركة قطر لافتةً بحيويتها وبحجم التوقعات المعلّقة على مساعيها.

على مستوى الشرعية الدولية، أعاد الخطاب التأكيد على المبادئ الأساسية: لا أمن بلا قانون، ولا سلام بلا عدالة، ولا تسوية بلا إنهاءٍ فعليّ للاحتلال ووقفٍ شامل لإطلاق النار، وإطلاق مسارٍ سياسي جادّ نحو دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. وقد تعزّز هذا الاتجاه أخلاقياً وسياسياً ببيانٍ سابق من الأمين العام للأمم المتحدة عبّر فيه عن تضامنه مع قطر وقلقه البالغ من الاعتداء الذي طال الدوحة، واصفاً إيّاه بانتهاكٍ صريح للأعراف والقانون الدولي؛ إشارةٌ تضع الاعتداء في خانة التهديد لجهود الوساطة لا لسيادة قطر وحدها.

لكنّ العنصر الأبرز الذي منح خطاب صاحب السمو زخماً إضافياً هو تبدّل المزاج الغربي إزاء الاعتراف بفلسطين. ففي غضون 48 ساعة فقط، أعلنت المملكة المتحدة، ثم كندا وأستراليا، وفرنسا الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين، في خطوةٍ كسرت تردّد عواصمٍ لطالما اتُّهمت بتغليب الواقعية الباردة على الحقّ الواضح. وقد صدرت البيانات على أعلى المستويات الحكومية، ما رفع سقف التوقّعات بشأن انتقال الاعتراف من “رمزيةٍ معزولة” إلى “مسارٍ متدرّج” يغيّر قواعد التفاوض المقبلة.

في ضوء ذلك، يمكن قراءة خطاب صاحب السمو كجسرٍ بين مسارين: مسار إنساني-أمني عاجل لضمان وقف إطلاق النار وحماية المدنيين وتدفق المساعدات، ومسار سياسي استراتيجي يُقاس بالاعترافات وبإعادة الاعتبار لمرجعية حلّ الدولتين. الأولى تحقن الدم وتمنع الانهيار المؤسّسي في غزة، والثانية تُخرج القضية من أسر “الإدارة بالأزمة” إلى رحابة التسوية النهائية. وإذا كان بعضهم يسأل: ماذا يغيّر الاعتراف عملياً ما دام الاحتلال قائماً؟ فالجواب أنّ اعترافات العواصم الكبرى تنقل النقاش من “هل تقوم الدولة؟” إلى “متى وكيف تُستكمل عناصرها؟” وتُضيّق هامش المناورة أمام مشاريع الضمّ والتوسّع.

قطر، كما يشير خطاب صاحب السمو، أنها تسعى إلى حماية هذا الجسر من التفجير: لا تخلّي عن الوساطة مهما اشتدّ الضغط، ولا قبول بتحويل المساعدات إلى أداة ابتزاز، ولا شرعنة لأي إجراءات أحادية تُقبر الحلّ النهائي. وهذه السياسة ليست معزولة؛ فالمساندة الأممية والتعاطف الشعبي العالمي يمنحانها ظهيراً معنوياً، فيما الاعترافات الأخيرة تُنتج ميزان قوى دبلوماسياً جديداً يمكن البناء عليه في مجلس الأمن وفي المنصّات المتخصّصة (حقوق الإنسان، المساعدات، إعادة الإعمار).

ولكي لا تبدو الصورة ورديّة، لا بدّ من التنبيه إلى ثلاثة مطبّات: أوّلاً، مقاومة إسرائيل المتوقّعة لأي مسارٍ يقود إلى دولةٍ فلسطينية ذات معنى، وربطها أي تقدّم بشروط أمنية قصوى قد تُفرغ الدولة من مضمونها؛ ثانياً، الانقسام الفلسطيني الداخلي الذي يُضعف الحُجّة السياسية ويعقّد مسار الاعترافات بإدارةٍ موحّدة ومسؤولة؛ ثالثاً، احتمال توظيف بعض القوى لفكرة “القوة الدولية” على نحوٍ يتجاوز حماية المدنيين إلى ترتيبات أمنية طويلة الأمد تُبقي السيادة منقوصة.

خلاصة الأمر: ما قاله صاحب السمو أمير البلاد حفظه الله في نيويورك ليس مجرّد موقفٍ عابر في منبرٍ دولي؛ إنّه تثبيتٌ لنهجٍ قطريّ قوامه الوساطة الفاعلة والتمسّك بالقانون الدولي، في لحظةٍ تشهد فيها القضية الفلسطينية تحوّلاً نوعياً من خانة “الحقّ المؤجَّل” إلى خانة “الواقع السياسي المعترف به”. وإذا نجح هذا الزخم في ترجمةٍ عملية - هدنة ثابتة، صفقة تبادل، مسار سياسي محدّد المدى - فإنّ خطاب اليوم سيكون قد دشّن مرحلةً جديدة: مرحلة يعود فيها السلام إلى جدول الأعمال كاحتمالٍ واقعي، لا كشعارٍ للاستهلاك..

مساحة إعلانية