رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
كان تحرك القائد العسكري الشرس نيكلسون على رأس قواته من بيشاور عشية انطلاق الثورة، قد استغرق شهرين تقريباً ليصل إلى دلهي. ارتبط اسم نيكلسون بالشراسة والبطش، وحين وصلت قواته، كانت الثورة في نفسها الأخير، لاسيما بعد أن نفد المال والسلاح عنها، ولم تُجدِ محاولات صرف المرابين والأغنياء عن التوقف عن دعمها. بدأ الانتقام الوحشي للقوات البريطانية من دلهي، ووثقته كثير من مذكرات الضباط البريطانيين، فطالت الشهادات قتل النساء والأطفال والحيوانات، بشكل وحشي. وصلت حالات القتل إلى ما يربو على عشرة آلاف شخص. وكتب أحد البريطانيين الذين عاصروا تلك المرحلة في مذكراته: «ببساطة لا أستطيع اعتبار هؤلاء السيبويين من البشر، إنهم مجرد زواحف تستحق القتل» وأشارت إلى هذه الحقائق مجلة نيودلهي جازيت إكسترا في افتتاحيتها الصادرة من لاهور: «جيشنا غاضب إلى درجة الجنون تقريباً، مما رأوه من وحشية المتمردين.)
كان المجاهدون وقوات السيبويين تتحصن في دلهي، بانتظار معركة شوارع تخوضها ضد القوات البريطانية، وحين بدأ الهجوم على المدينة، حقق البريطانيون في البداية، بعض النجاح، ليفاجأوا بتكتيكات المجاهدين داخل المدينة التي باتت محاصرة. تميزت التكتيكات بقوة نيران المتحصنين، وإنزالهم خسائر مخيفة في صفوف القوات البريطانية، والتي فقدت قائد الهجوم المتغطرس نيكلسون، والذي تُرك في أرض المعركة ينزف، ليموت لاحقاً دون أن يُسعفه أحد إلى المشفى الميداني، على الرغم من مناشداته المتكررة، وكتب أحد ضباط المعركة وهو هودسون لزوجته يصف المشهد: ( لأول مرة في حياتي أرى جنود الانجليز يرفضون الانصياع لأوامر ضباطهم، وقد اعتلت أرواحهم حالة من الإحباط التام، بسبب العمل الشاق، وكثرة ما احتسوه من الخمور.)، ووصف هودسون نائب قائد المعركة ويلسون بالقول: ( ويلسون محطم إلى حد ما، بسبب الإرهاق والقلق، حتى قدماه لا تقويان على حمله.)
ويصف أحد المحاصرين البريطانيين في داخل دلهي قوات المجاهدين التي كانت تقاتل ببسالة ورجولة بأن ( هؤلاء المجاهدين من نسل الشياطين والمتعصبين.) لكن سرعان ما انقلبت الآية، حيث بدا الجوع واليأس يخيمان على القوات البريطانية، ساعد ذلك ارتباك قائد القوات الجديدة نيلسون بعد أن فقد قائده نيكلسون، إلاّ أن مخطط الهجوم الذي أعلنه ريتشارد بيرد سميث بدأ ينقذ الموقف المتهالك. كان نيكلسون على فراش الموت قبل وفاته، يخبر من حوله بأن يرسلوا نصيحته إلى القائد في لاهور بإقالة ويلسون، لأن الإبقاء عليه في منصب القيادة تهاون بحق وطننا.
رتبت القوات البريطانية نفسها، واستعادت قوتها، وشنت هجومها الجديد على المدينة، فتمكنت في البداية من دخول حيّها الشمالي، فأعملت فيه القتل والنهب، فلم يسلم منهم عملاؤهم ومخبروهم وجواسيسهم، وكتب معين الدين حسين خان عن ذلك اليوم المشؤوم 15 سبتمبر يقول: ( لم تكن حياة أحد في المدينة آمنة. قبضوا على جميع من يرونه أمامهم، بتهمة انتمائهم للمتمردين ثم قتلهم. ويضيف: انتقم المنتصرون العائدون بغضب من كل من قابلهم في الشوارع. كان دخولهم مروعاً، قتلوا الضعفاء، وأحرقوا منازلهم، وانتشرت المجازر وامتلأت الشوارع بالرعب من تلك الفظائع، التي ربما دائماً ما تعقب الفتوحات.) أما إداور كامبل الشخصية اللطيفة بمعايير ذلك الوقت، غير المتشددة، فقد وصف الهجوم على دلهي بأنه ( معركة إخلاص وعبادة) واعتبر نفسه ( جندي المسيح الصالح) وكتب عنها تشارلز جريفيث وهو ممن شهدها يقول: ( لقد كانت حرب إبادة بدون أسرى، ودون إظهار أدنى قدر من الشفقة والرحمة. باختصار، كانت واحدة من أشد الحروب التي شهدها العالم قسوة وانتقاماً.. تراكمت جثث الموتى في الشوارع والأماكن المكشوفة، وقتل كثيرون في منازلهم، حتى الأبرياء منهم، لأن رجالنا كانوا يقاتلون بجنون دون تمييز.. ولا يوجد مشهد مرعب أكثر من مشهد المدينة التي اجتاحتها عاصفة كتلك.)
لم يستسلم جيشا السيبويين والمجاهدين للواقع الجديد، وظل الأمل يراودهما ويحدوهما بالانتصار. كان ميرزا مغول ومعه سرفرزا وبخت يعدون المقاتلين بالنصر، حيث تجمع أكثر من 70 ألفاً من المقاتلين معهم، يستعدون للدفاع عن المدينة المحاصرة، والقتال دونها، طالبين من الإمبراطور بهادور ظفر أن يقود المعركة بنفسه ولو رمزياً، وبعد أن أقنعوه بالأمر، نجح مستشاره إحسان الله الذي كان عميلاً للبريطانيين في ثنيه عن قراره، فلعب على مخاوفه، وأعاده إلى قصره، بحجة أنه سيتم التخلي عنه، ليؤسر بأيدي البريطانيين ثم يُعدم. استجاب الملك لما نصحه به إحسان وعاد أدراجه من أرض المعركة، وهو ما أحبط آخر آمال المجاهدين والمقاتلين، الذين كانوا يبحثون عن رمزية لمعركتهم في مواجهة عدو شرس. كان من نتائج هذا انفضاض الناس من حول المجاهدين والثوار.
يوم السادس عشر من سبتمبر الذي بلغته الثورة في دلهي، كانت لحظة فارقة للثورة، التي كادت تطيح بالاحتلال البريطاني يومها، فمعنويات الجيش البريطاني منهارة تماماً، عكستها ما دونه قائد القوات البريطانية ويلسون في مذكراته يقول: ( رجالنا يكرهون قتال الشوارع المقيت هذا بشدة، ومصابون بالذعر، ولن يتقدموا، أنا لا أستطيع إيجاد حل على الإطلاق.)
لكن أهالي دلهي الذين بدوا لا يعرفون ما يجري في صفوف القوات البريطانية والمعتصمين بدأوا بالبحث عن الملاذات، فكان الهروب الكبير، وفرغت المدينة من أهلها خشية من الانتقام الكبير الذي ينتظرهم، إن تمكنت القوات البريطانية من هزيمة المعتصمين، بينما كان الملك ظفر بحسب ما أوردته ابنته كلثوم، معتكفاً في غرفة التسبيح والصلاة، كعادته حين يُصاب بهزيمته النفسية، وتقول ابنته: «طلبني وأبلغني بأن أغادر مع زوجي، فلا يريدني قريبة منه في هذه الظروف، حتى لا ينالني أذى، وسلمني بعض الجواهر الثمينة، ثم خرجنا من عنده، وفي طريق الهروب اعترضتنا عصابات من الغجر وجردتنا من كل ما نملك حتى ملابسنا التي علينا» أما المدينة فبحسب توصيف مؤرخي ذلك الزمان فقد تحولت إلى مدينة موتى، بعد أن أقفرت تماماً من 150 ألفا من ساكنيها.
في ظل هذه الظروف التي تنتظر موقفاً حاسماً من سلطة رفيعة كالملك، قرر ظفر خلسة أن يغادر قصره في دلهي ولأول مرة، مغادرة كانت إلى الأبد، ليركن إلى ما طمح إليه دائماً بأن يعيش عند قبر أحد أولياء الصوفية، ظاناً أن ذلك سيسعفه من غضبة البريطانيين، أو سينجيه مما يحيق به، وسريعاً ما لجأ بعد القبر إلى قبر جده همايون، وكأنه يطلب منه الدفاع عن عرش بات مهدداً، لكن أخباره كانت تصل إلى البريطانيين بالتفاصيل، عبر زوجته ومستشاره وطبيبه الخاص إحسان الله المخترقين لكل أسراره وتفاصيل تحركاته.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
-«المتنبي» حاضراً في افتتاح «كأس العرب» - «أبو الطيب» يتألق في نَظْم الشعر.. وفي تنظيم البطولات تتفوق قطر - «بطولة العرب» تجدد شراكة الجذور.. ووحدة الشعور - قطر بسواعد أبنائها وحنكة قادتها تحقق الإنجاز تلو الآخر باستضافتها الناجحة للبطولات - قطر تراهن على الرياضة كقطاع تنموي مجزٍ ومجال حيوي محفز - الحدث العربي ليس مجرد بطولة رياضية بل يشكل حدثاً قومياً جامعاً -دمج الأناشيد الوطنية العربية في نشيد واحد يعبر عن شراكة الجذور ووحدة الشعور لم يكن «جحا»، صاحب النوادر، هو الوحيد الحاضر، حفل افتتاح بطولة «كأس العرب»، قادماً من كتب التراث العربي، وأزقة الحضارات، وأروقة التاريخ، بصفته تعويذة البطولة، وأيقونتها النادرة. كان هناك حاضر آخر، أكثر حضوراً في مجال الإبداع، وأبرز تأثيراً في مسارات الحكمة، وأشد أثرا في مجالات الفلسفة، وأوضح تأثيرا في ملفات الثقافة العربية، ودواوين الشعر والقصائد. هناك في «استاد البيت»، كان من بين الحضور، نادرة زمانه، وأعجوبة عصره، مهندس الأبيات الشعرية، والقصائد الإبداعية، المبدع المتحضر، الشاعر المتفاخر، بأن «الأعمى نظر إلى أدبه، وأسمعت كلماته من به صمم»! وكيف لا يأتي، ذلك العربي الفخور بنفسه، إلى قطر العروبة، ويحضر افتتاح «كأس العرب» وهو المتباهي بعروبته، المتمكن في لغة الضاد، العارف بقواعدها، الخبير بأحكامها، المتدفق بحكمها، الضليع بأوزان الشعر، وهندسة القوافي؟ كيف لا يأتي إلى قطر، ويشارك جماهير العرب، أفراحهم ويحضر احتفالاتهم، وهو منذ أكثر من ألف عام ولا يزال، يلهم الأجيال بقصائده ويحفزهم بأشعاره؟ كيف لا يأتي وهو الذي يثير الإعجاب، باعتباره صاحب الآلة اللغوية الإبداعية، التي تفتّقت عنها ومنها، عبقريته الشعرية الفريدة؟ كيف لا يحضر فعاليات «بطولة العرب»، ذلك العربي الفصيح، الشاعر الصريح، الذي يعد أكثر العرب موهبة شعرية، وأكثرهم حنكة عربية، وأبرزهم حكمة إنسانية؟ كيف لا يحضر افتتاح «كأس العرب»، وهو الشخصية الأسطورية العربية، التي سجلت اسمها في قائمة أساطير الشعر العربي، باعتباره أكثر شعراء العرب شهرة، إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق في مجال التباهي بنفسه، والتفاخر بذاته، وهو الفخر الممتد إلى جميع الأجيال، والمتواصل في نفوس الرجال؟ هناك في الاستاد «المونديالي»، جاء «المتنبي» من الماضي البعيد، قادماً من «الكوفة»، من مسافة أكثر من ألف سنة، وتحديداً من العصر العباسي لحضور افتتاح كأس العرب! ولا عجب، أن يأتي «أبو الطيب»، على ظهر حصانه، قادماً من القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، لمشاركة العرب، في تجمعهم الرياضي، الذي تحتضنه قطر. وما من شك، في أن حرصي على استحضار شخصية «المتنبي» في مقالي، وسط أجواء «كأس العرب»، يستهدف التأكيد المؤكد، بأن هذا الحدث العربي، ليس مجرد بطولة رياضية.. بل هو يشكل، في أهدافه ويختصر في مضامينه، حدثاً قومياً جامعاً، يحتفل بالهوية العربية المشتركة، ويحتفي بالجذور القومية الجامعة لكل العرب. وكان ذلك واضحاً، وظاهراً، في حرص قطر، على دمج الأناشيد الوطنية للدول العربية، خلال حفل الافتتاح، ومزجها في قالب واحد، وصهرها في نشيد واحد، يعبر عن شراكة الجذور، ووحدة الشعور، مما أضاف بعداً قومياً قوياً، على أجواء البطولة. ووسط هذه الأجواء الحماسية، والمشاعر القومية، أعاد «المتنبي» خلال حضوره الافتراضي، حفل افتتاح كأس العرب، إنشاد مطلع قصيدته الشهيرة التي يقول فيها: «على قدر أهل العزم تأتي العزائم» «وتأتي على قدر الكرام المكارم» والمعنى المقصود، أن الإنجازات العظيمة، لا تتحقق إلا بسواعد أصحاب العزيمة الصلبة، والإرادة القوية، والإدارة الناجحة. معبراً عن إعجابه بروعة حفل الافتتاح، وانبهاره، بما شاهده في عاصمة الرياضة. مشيداً بروعة ودقة التنظيم القطري، مشيراً إلى أن هذا النجاح الإداري، يجعل كل بطولة تستضيفها قطر، تشكل إنجازاً حضارياً، وتبرز نجاحاً تنظيمياً، يصعب تكراره في دولة أخرى. وهكذا هي قطر، بسواعد أبنائها، وعزيمة رجالها، وحنكة قادتها تحقق الإنجاز تلو الآخر، خلال استضافتها الناجحة للبطولات الرياضية، وتنظيمها المبهر للفعاليات التنافسية، والأحداث العالمية. وخلال السنوات الماضية، تبلورت في قطر، مرتكزات استراتيجية ثابتة، وتشكلت قناعات راسخة، وهي الرهان على الرياضة، كقطاع تنموي منتج ومجزٍ، ومجال حيوي محفز، قادر على تفعيل وجرّ القطاعات الأخرى، للحاق بركبه، والسير على منواله. وتشغيل المجالات الأخرى، وتحريك التخصصات الأخرى، مثل السياحة، والاقتصاد، والإعلام والدعاية، والترويج للبلاد، على المستوى العالمي، بأرقى حسابات المعيار العالمي. ويكفي تدشينها «استاد البيت»، ليحتضن افتتاح «كأس العرب»، الذي سبق له احتضان «كأس العالم»، وهو ليس مجرد ملعب، بل رمز تراثي، يجسد في تفاصيله الهندسية، معنى أعمق، ورمزا أعرق، حيث يحمل في مدرجاته عبق التراث القطري، وعمل الإرث العربي. وفي سياق كل هذا، تنساب في داخلك، عندما تكون حاضراً في ملاعب «كأس العرب»، نفحات من الروح العربية، التي نعيشها هذه الأيام، ونشهدها في هذه الساعات، ونشاهدها خلال هذه اللحظات وهي تغطي المشهد القطري، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه. وما من شك، في أن تكرار نجاحات قطر، في احتضان البطولات الرياضية الكبرى، ومن بينها بطولة «كأس العرب»، بهذا التميز التنظيمي، وهذا الامتياز الإداري، يشكل علامة فارقة في التنظيم الرياضي. .. ويؤكد نجاح قطر، في ترسيخ مكانتها على الساحة الرياضية، بصفتها عاصمة الرياضة العربية، والقارية، والعالمية. ويعكس قدرتها على تحقيق التقارب، بين الجماهير العربية، وتوثيق الروابط الأخوية بين المشجعين، وتوطيد العلاقات الإنسانية، في أوساط المتابعين! ولعل ما يميز قطر، في مجال التنظيم الرياضي، حرصها على إضافة البعد الثقافي والحضاري، والتاريخي والتراثي والإنساني، في البطولات التي تستضيفها، لتؤكد بذلك أن الرياضة، في المنظور القطري، لا تقتصر على الفوز والخسارة، وإنما تحمل بطولاتها، مجموعة من القيم الجميلة، وحزمة من الأهداف الجليلة. ولهذا، فإن البطولات التي تستضيفها قطر، لها تأثير جماهيري، يشبه السحر، وهذا هو السر، الذي يجعلها الأفضل والأرقى والأبدع، والأروع، وليس في روعتها أحد. ومثلما في الشعر، يتصدر «المتنبي» ولا يضاهيه في الفخر شاعر، فإن في تنظيم البطولات تأتي قطر، ولا تضاهيها دولة أخرى، في حسن التنظيم، وروعة الاستضافة. ولا أكتب هذا مديحاً، ولكن أدوّنه صريحاً، وأقوله فصيحاً. وليس من قبيل المبالغة، ولكن في صميم البلاغة، القول إنه مثلما يشكل الإبداع الشعري في قصائد «المتنبي» لوحات إبداعية، تشكل قطر، في البطولات الرياضية التي تستضيفها، إبداعات حضارية. ولكل هذا الإبداع في التنظيم، والروعة في الاستضافة، والحفاوة في استقبال ضيوف «كأس العرب».. يحق لدولتنا قطر، أن تنشد، على طريقة «المتنبي»: «أنا الذي حضر العربي إلى ملعبي» «وأسعدت بطولاتي من يشجع كرة القدمِ» وقبل أن أرسم نقطة الختام، أستطيع القول ـ بثقة ـ إن هناك ثلاثة، لا ينتهي الحديث عنهم في مختلف الأوساط، في كل الأزمنة وجميع الأمكنة. أولهم قصائد «أبو الطيب»، والثاني كرة القدم باعتبارها اللعبة الشعبية العالمية الأولى، أمــــا ثالثهم فهي التجمعات الحاشدة، والبطولات الناجحة، التي تستضيفها - بكل فخر- «بلدي» قطر.
2445
| 07 ديسمبر 2025
لم يكن خروج العنابي من بطولة كأس العرب مجرد خيبة رياضية عابرة، بل كانت صدمة حقيقية لجماهير كانت تنتظر ظهوراً مشرفاً يليق ببطل آسيا وبمنتخب يلعب على أرضه وبين جماهيره. ولكن ما حدث في دور المجموعات كان مؤشراً واضحاً على أزمة فنية حقيقية، أزمة بدأت مع اختيارات المدرب لوبيتيغي قبل أن تبدأ البطولة أصلاً، وتفاقمت مع كل دقيقة لعبها المنتخب بلا هوية وبلا روح وبلا حلول! من غير المفهوم إطلاقاً كيف يتجاهل مدرب العنابي أسماء خبرة صنعت حضور المنتخب في أكبر المناسبات! أين خوخي بوعلام و بيدرو؟ أين كريم بوضياف وحسن الهيدوس؟ أين بسام الراوي وأحمد سهيل؟ كيف يمكن الاستغناء عن أكثر اللاعبين قدرة على ضبط إيقاع الفريق وقراءة المباريات؟ هل يعقل أن تُستبعد هذه الركائز دفعة واحدة دون أي تفسير منطقي؟! الأغرب أن المنتخب لعب البطولة وكأنه فريق يُجرَّب لأول مرة، لا يعرف كيف يبني الهجمة، ولا يعرف كيف يدافع، ولا يعرف كيف يخرج بالكرة من مناطقه. ثلاث مباريات فقط كانت كفيلة بكشف حجم الفوضى: خمسة أهداف استقبلتها الشباك مقابل هدف يتيم سجله العنابي! هل هذا أداء منتخب يلعب على أرضه في بطولة يُفترض أن تكون مناسبة لتعزيز الثقة وإعادة بناء الهيبة؟! المؤلم أن المشكلة لم تكن في اللاعبين الشباب أنفسهم، بل في كيفية إدارتهم داخل الملعب. لوبيتيغي ظهر وكأنه غير قادر على استثمار طاقات عناصره، ولا يعرف متى يغيّر، وكيف يقرأ المباراة، ومتى يضغط، ومتى يدافع. أين أفكاره؟ أين أسلوبه؟ أين بصمته التي قيل إنها ستقود المنتخب إلى مرحلة جديدة؟! لم نرَ سوى ارتباك مستمر، وخيارات غريبة، وتبديلات بلا معنى، وخطوط مفككة لا يجمعها أي رابط فني. المنتخب بدا بلا تنظيم دفاعي على الإطلاق. تمريرات سهلة تخترق العمق، وأطراف تُترك بلا رقابة، وتمركز غائب عند كل هجمة. أما الهجوم، فقد كان حاضراً بالاسم فقط؛ لا حلول، لا جرأة، لا انتقال سريع، ولا لاعب قادر على صناعة الفارق. كيف يمكن لفريق بهذا الأداء أن ينافس؟ وكيف يمكن لجماهيره أن تثق بأنه يسير في الطريق الصحيح؟! الخروج من دور المجموعات ليس مجرد نتيجة سيئة، بل مؤشر مخيف! فهل يدرك الجهاز الفني حجم ما حدث؟ هل يستوعب لوبيتيغي أنه أضاع هوية منتخب بطل آسيا؟ وهل يتعلم من أخطاء اختياراته وإدارته؟ أم أننا سننتظر صدمة جديدة في استحقاقات أكبر؟! كلمة أخيرة: الأسئلة كثيرة، والإجابات حتى الآن غائبة، لكن من المؤكّد أن العنابي بحاجة إلى مراجعة عاجلة وحقيقية قبل أن تتكرر الخيبة مرة أخرى.
2274
| 10 ديسمبر 2025
عندما يصل شاب إلى منصب قيادي مبكرًا، فهذا لا يعني بالضرورة أنه الأفضل والأذكى والأكثر كفاءة، بل قد تكون الظروف والفرص قد أسهمت في وصوله. وهذه ليست انتقاصًا منه، بل فرصة يجب أن تُستثمر بحكمة. ومن الطبيعي أن يواجه القائد الشاب تحفظات أو مقاومة ضمنية من أصحاب الخبرة والكفاءات. وهنا يظهر أول اختبار له: هل يستفيد من هذه الخبرات أم يتجاهلها ؟ وكلما استطاع القائد الشاب احتواء الخبرات والاستفادة منها، ازداد نضجه القيادي، وتراجع أثر الفجوة العمرية، وتحوّل الفريق إلى قوة مشتركة بدل أن يكون ساحة تنافس خفي. ومن الضروري أن يدرك القائد الشاب أن أي مؤسسة يتسلّمها تمتلك تاريخًا مؤسسيًا وإرثًا طويلًا، وأن ما هو قائم اليوم هو حصيلة جهود وسياسات وقرارات صاغتها أجيال متعاقبة عملت تحت ظروف وتحديات قد لا يدرك تفاصيلها. لذلك، لا ينبغي أن يبدأ بهدم ما مضى أو السعي لإلغائه؛ فالتطوير والبناء على ما تحقق سابقًا هو النهج الأكثر نضجًا واستقرارًا وأقل كلفة. وهو وحده ما يضمن استمرارية العمل ويُجنّب المؤسسة خسائر الهدم وإعادة البناء. وإذا أراد القائد الشاب أن يرد الجميل لمن منحه الثقة، فعليه أن يعي أن خبرته العملية لا يمكن أن تضاهي خبرات من سبقه، وهذا ليس نقصًا بل فرصة للتعلّم وتجنّب الوقوع في وهم الغرور أو الاكتفاء بالذات. ومن هنا تأتي أهمية إحاطة نفسه بدائرة من أصحاب الخبرة والكفاءة والمشورة الصادقة، والابتعاد عن المتسلقين والمجاملين. فهؤلاء الخبراء هم البوصلة التي تمنعه من اتخاذ قرارات متسرّعة قد تكلّف المؤسسة الكثير، وهم في الوقت ذاته إحدى ركائز نجاحه الحقيقي ونضجه القيادي. وأي خطأ إداري ناتج عن حماس أو عناد قد يربك المسار الاستراتيجي للمؤسسة. لذلك، ينبغي أن يوازن بين الحماس ورشادة القرار، وأن يتجنب الارتجال والتسرع. ومن واجبات القائد اختيار فريقه من أصحاب الكفاءة (Competency) والخبرة (Experience)، فنجاحه لا يتحقق دون فريق قوي ومتجانس من حوله. أما الاجتماعات والسفرات، فالأصل أن تُعقَد معظم الاجتماعات داخل المؤسسة (On-Site Meetings) ليبقى القائد قريبًا من فريقه وواقع عمله. كما يجب الحدّ من رحلات العمل (Business Travel) إلا للضرورة؛ لأن التواجد المستمر يعزّز الانضباط، ويمنح القائد فهمًا أعمق للتحديات اليومية، ويُشعر الفريق بأن قائده معهم وليس منعزلًا عن بيئة عملهم. ويمكن للقائد الشاب قياس نجاحه من خلال مؤشرات أداء (KPIs) أهمها هل بدأت الكفاءات تفكر في المغادرة؟ هل ارتفع معدل دوران الموظفين (Turnover Rate)؟ تُمثل خسارة الكفاءات أخطر تهديد لاستمرارية المؤسسة، فهي أشد وطأة من خسارة المناقصات أو المشاريع أو أي فرصة تجارية عابرة. وكتطبيق عملي لتعزيز التناغم ونقل المعرفة بين الأجيال، يُعدّ تشكيل لجنة استشارية مشتركة بين أصحاب الخبرة الراسخة والقيادات الصاعدة آلية ذات جدوى مضاعفة. فإلى جانب ضمانها اتخاذ قرارات متوازنة ومدروسة ومنع الاندفاع أو التفرد بالرأي، فإن وجود هذه اللجنة يُغني المؤسسة عن اللجوء المتكرر للاستشارات العالمية المكلفة في كثير من الخطط والأهداف التي يمكن بلورتها داخليًا بفضل الخبرات المتراكمة. وفي النهاية، تبقى القيادة الشابة مسؤولية قبل أن تكون امتيازًا، واختبارًا قبل أن تكون لقبًا. فالنجاح لا يأتي لأن الظروف منحت القائد منصبًا مبكرًا، بل لأنه عرف كيف يحوّل تلك الظروف والفرص إلى قيمة مضافة، وكيف يبني على خبرات من سبقه، ويستثمر طاقات من حوله.
1200
| 09 ديسمبر 2025