رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

إحسان الفقيه

إحسان الفقيه

مساحة إعلانية

مقالات

288

إحسان الفقيه

اللغة العربية وإكسير الخلود

19 أكتوبر 2025 , 01:28ص

ما أشبه اللغة بالجسد، تنمو كما ينمو، وتذبل كما يذبل، وتمر بذات مراحله في التطور، تولد، وتشب، ثم تشيخ، وبعدها تدلف إلى أحد مصيرين: إما أن تضمحل وتتلاشى، وإما أن تنقلب على ذاتها فتخرج من رحمها لغات أُخَر كأنها ولد خرج من صلب أبيه.

اللغة اللاتينية التي صدحت بها روما وملأت بها أسماع البحر المتوسط، كانت في يومها لسان العلم والدرس ثم انكمشت حتى غدت لغة متاحف، لم تمت في صمت، بل تناسلت، فانبثقت منها مذاهب لغوية، الإيطالية والفرنسية والرومانية والإسبانية والبرتغالية.

الفرنسية التي يُتحدث بها اليوم ليست هي ذاتها الفرنسية التي تحدث بها فرسان الحملات الصليبية الأولى، والألمانية الحديثة ليست هي الألمانية التي تحدث بها آباء الجرمان، والإنجليزية لم تُبْقِ على وحدة بين لسان البريطاني والأمريكي والأسترالي إلا كما تُبقي الغصون المتفرقة من الشجرة الواحدة على أصل بعيد، فجميعهم أغصان شتى لأصل غائر، لا يتفق لسانهم.

وحدها اللغة العربية قد شقت لنفسها سبيلًا آخر، ومصيرًا مختلفًا، وكأنها أبت الوصول إلى سن اليأس الذي تأخذ فيه أخواتها في التداعي والانشطار، والسر - لا ريب - في ذلك الكتاب المنزل من فوق سبع سماوات بلسان عربي مبين، أنزله الله بهذا اللسان وجعله مادة حياة له، فمهما اختلفت لهجات العرب في المشارق والمغارب، ظلت العربية الفصحى هي الخالدة المهيمنة، هي لغة الصلاة والعلم والدراسة والبحث والتأليف، فلن نغلو إن قلنا بأن العربية لم تعصمها الطبيعة وإنما عصمها التنزيل، ولو تُركت لعوامل الزمن الطبيعية لأصابها ما أصاب أخواتها.

عندما أشرقت شمس رسالة الإسلام، لم يحتفظ بالعربية لغةً لقوم، بل رايةً لأمة، غدا الانتماء لها عقيدة وثقافة لا عرق ولا جنس، وصار الخطاب لأصحاب اللسان العربي خطابًا للأمة بأسرها، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «يا نعايا العرب، يا نعايا العرب، إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية»، يقصد بالعرب الأمة بأسرها. 

عندما دخل الأعاجم الإسلام احتفوا بالعربية وتعلموها فصارت بابهم إلى العلم ومفتاح الدين ومركب الفهم، بها وصلوا إلى القرآن وحصلوا علومه، فصنفوا الكتب على اللسان العربي وتناقلت الأجيال علومهم. 

قارن بين العربية وغيرها ترى العجب، فكتب الغرب القديمة لا يُقرأ منها اليوم شيء إلا بمعاجم تُفسر لغتها، لأن اللسان الذي كُتبت به تلك الكتب، قد مضى زمانه، وخلفه لسان آخر.

أما العربية، فيقرأ القارئ اليوم كتب الجاحظ وابن قتيبة كما يقرأ الصحيفة اليومية، لا تثقل عليه مفرداتها، ولا تستغلق عليه عباراتها. وسبب ذلك، هو هذا الكتاب العزيز، الذي أمسك اللغة بيدٍ من نور، فجعل أجيال العرب من العصر الأول إلى اليوم، يتحدث بعضهم إلى بعض وإن فرقت بينهم مئات السنين.

ولقد نشأت علوم ما كانت لتنشأ لولا هذا القرآن، فالنحو وُضع خشية اللحن فيه، والصرف لضبط ألفاظه، والمعاني والبيان والبديع لتذوق إعجازه، والتفسير لفهمه، والحديث لحمله، والفقه لتطبيقه، فكانت علوم الإسلام كلها دائرة حول هذا الكتاب، فكان القرآن سببًا في اتساع العربية وتعميقها، لا مجرد حامٍ لها من الضياع.

وإنك لترى أثر القرآن في أساليب البلغاء والأدباء، حتى كأنهم يُحاكونه، أو يتشبثون بظلاله، من معاني الزهد والجهاد والموت والحياة، والعدل والقدر والمصير.

قد أدرك ذلك أعداء القرآن، أرادوا ضربه من خلال ضرب وعائه وهو اللغة العربية، فأطلقوا الدعوة تلو الدعوة: الدعوة إلى العامية، الدعوة إلى اللهجات، الدعوة إلى كتابة العربية بالحرف اللاتيني، والدعوة إلى تفكيك القواعد والتهوين من شأن النحو وتبسيط الصرف لتفريغ اللغة من جوهرها.

اللغة العربية لا تواجه خطر التلاشي كما واجهته أخواتها، وإنما تواجه خطر التهميش المتعمد والقطيعة المفتعلة بينها وبين أبنائها، يُراد لها أن تُنسى عن طريق إخماد صوتها في النفوس وتطويقها باللهجات وتحنيطها في الكتب. يُراد لها أن تكون لغة تراث لا لغة حياة، لكنها لن تطفأ ما دام القرآن يتلى، ذلك القرآن الذي منحها البقاء وكان لها إكسير الخلود.

اقرأ المزيد

alsharq رحمات مُرسلة

في مسيرة الحياة، تتسلل إلينا بعض الأرواح كأنها إشارات خفيّة من السماء، تحمل في حضورها سكينة تخفف عن... اقرأ المزيد

330

| 21 أكتوبر 2025

alsharq متى تعود غزة للحياة؟

ما هذه الأخبار التي نقرأها كل يوم؟! أليس من المفترض أن يكون قرار وقف إطلاق النار ساريا منذ... اقرأ المزيد

135

| 21 أكتوبر 2025

alsharq ثقافة الإلغاء

مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح توثيق كل كلمة وصورة سهلا وفي متناول اليد. وكل صواب وخطأ يمكن... اقرأ المزيد

159

| 21 أكتوبر 2025

مساحة إعلانية