رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. عبد الله النعمة

مساحة إعلانية

مقالات

363

د. عبد الله النعمة

حين يصبح بيتنا أول غربة لأبنائنا

15 أكتوبر 2025 , 05:04ص

لنتوقف لحظة عند عتبة بيوتنا في الخليج، ونتأمل ذلك المشهد الذي يمتزج فيه الفخر بالقلق؛ حين نستمع بفخر لطفلنا وهو يتحدث الإنجليزية بطلاقة ولكنة شبه أصيلة، معتبرين ذلك استثمارًا صائبًا في مستقبله. ولكن، يداهمنا القلق حين تنادي الجدة حفيدها بكلمة تراثية دافئة، أو يحاول الجد أن يروي له قصة من قصص الأولين، فيقابلهما الطفل بنظرة حائرة. هذه اللحظة تكشف عن حقيقة جوهرية: أي تنمية لا تنسجم مع الثقافة تخلق شرخًا وعدم توازن سنعاني منه مستقبلًا. إن أخطر أنواع هذا الشرخ هو تنمية عقول أبنائنا مع إهمال قلوبهم وهوياتهم.

وهنا يبرز سؤال جوهري: في سعينا لتنمية «لغة العقل» - لغة العلم والوظيفة - هل بدأنا دون قصد في إضعاف «لغة القلب» لديهم؟ لغة الروح والهوية والانتماء. حين نجعل الإنجليزية لغة تواصلنا اليومي مع أبنائنا في المنزل، هل نبني لهم جسرًا نحو العالم، أم أننا نجعل من بيوتنا أول محطة اغتراب في حياتهم؟

إن أكبر خطأ قد نرتكبه هو الاعتقاد بأن اللغة مجرد أداة محايدة، فالحقيقة أن اللغة هي «وعاء الروح»؛ هي الشفرة التي نحمل بها أعمق مشاعرنا وذكرياتنا. عندما يقرر الأبوان، بحسن نية، جعل الإنجليزية لغة الحوار الأساسية، فإنهما يضعان نفسيهما وأطفالهما في حالة «ترجمة» مستمرة للمشاعر. الأم التي تريد أن تعبر عن حبها العميق بكلمات مثل «يا بعد عمري» أو «يا ضناي»، تجد نفسها تستبدلها بكلمة «My dear». الكلمة قد تؤدي المعنى، لكنها تفقد شحنتها العاطفية والثقافية الكاملة. هذا المجهود المستمر في «ترجمة المشاعر» يخلق مسافة خفية، ويجعل العلاقة أقل عفوية وأكثر تصنعًا. إننا نعلمهم لغة العقل، لكننا نفطمهم تدريجيًا عن لغة الوجدان التي تربطهم بنا وبأرضهم.

تتعمق هذه المأساة حين تمتد إلى علاقة الطفل بأجداده. هؤلاء الكبار، كنوز الحكمة والذاكرة الحية لثقافتنا، يصبحون عاجزين عن التواصل الحقيقي مع أحفادهم. يقف حاجز اللغة سدًا منيعًا أمام الجد الذي يريد أن يروي قصة بطولة، وأمام الجدة التي ترغب في تعليم حفيدتها أصول الضيافة. تتحول العلاقة التي يجب أن تكون مصدرًا للدفء إلى مجرد ابتسامات ومجاملات سطحية. نحن لا نحرم أطفالنا من أجدادهم فحسب، بل من إرث ثقافي وروحي لا يمكن لأي مدرسة أجنبية أن تقدمه.

الحل لا يكمن في رفض اللغات الأخرى، بل في إعادة كل لغة إلى مكانها الصحيح. تنمية أبنائنا مسؤولية تبدأ من البيت.

• اجعلوا العربية لغة القلب والبيت: يجب أن يتخذ الأبوان قرارًا واعيًا بأن تكون اللغة العربية، بلهجتنا الخليجية الدافئة، هي لغة المشاعر والنقاشات وقصص ما قبل النوم. لتكن الإنجليزية لغة المهارة في المدرسة، والعربية لغة الهوية في البيت.

• كونوا أنتم القدوة: تحدثوا معهم بالعربية، اقرأوا لهم قصصًا عربية، وشاهدوا برامج هادفة بلغتهم. إذا رأى الطفل أن لغته الأم ثانوية في نظر والديه، فلن يحترمها.

• أغرقوهم في جمال ثقافتهم: خذوهم إلى الأماكن التراثية، علّموهم عن الأكلات الشعبية ومعنى «القهوة» و»إقلاط الضيف»، واجعلوا ثقافتهم جزءًا حيًا ومحبوبًا من حياتهم.

في الختام، هدفنا الأسمى ليس تخريج أجيال تتحدث الإنجليزية بطلاقة، بل تربية أجيال تشعر بعمق بلسانها الأم، وتعبر عن أفكارها الأصيلة بأي لغة أخرى. حين نجعل بيوتنا فضاءات إنجليزية، قد نسلب أطفالنا ميزتهم الأهم: الشعور بالانتماء العميق والجذور الراسخة. الطفل الذي لا يجد هويته في بيته سيظل يبحث عنها طوال حياته. فلنجعل بيوتنا حصونًا لهويتهم، لا أولى محطات غربتهم.

مساحة إعلانية