رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

سعدية مفرح

كاتبة كويتية

مساحة إعلانية

مقالات

228

سعدية مفرح

عائدون..!

13 أكتوبر 2025 , 05:10ص

أتابع مشاهد العائدين إلى بيوتهم أو ما تبقّى منها في شمال ووسط غزة، وأشعر أن قلبي ينهض واقفًا أمام هذا الطوفان البشري المفعم بالعزم. رجالٌ ونساءٌ وأطفالٌ يسيرون في طرقٍ ربما لم تعد تعرفهم كما كانت وكما كانوا، بين حجارة فقدت ترتيبها، وجدرانٍ تهاوت لكنها ما زالت حية. كل خطوة من خطواتهم تشبه اعترافًا صامتًا بالحياة، وكل التفاتة نحو الخلف تقول: «ها نحن لم نُمحَ ولم نباد».

ليست العودة هنا إلى البيوت فحسب، بل إلى معنى الوجود ذاته. فهؤلاء الذين غادروا تحت القصف، وعادوا تحت الهدنة، لم يعودوا كما كانوا. في عيونهم شيء من الرماد وشيء من الضوء، وفي أصواتهم ما يشبه صدى الأمهات اللواتي ما زلن ينادين أبناءهنّ من تحت الركام. كأنّ غزة كلّها تمشي الآن على قدمَي ذاكرةٍ تحاول أن تتذكّر شكلها قبل الألم.

البيوت التي كانت قبل الحرب تحتضن أحلام الصغار، تحوّلت إلى خرائط من الغياب. ومع ذلك، ترى أهلها يقتربون منها بخشوعٍ غريب، كمن يزور مقامًا مقدّسًا، يلمسون الجدران المتهاوية بأطراف أصابعهم كأنهم يعتذرون منها عن الغياب، أو يشكرونها لأنها صمدت إلى هذا الحدّ. امرأةٌ تمسح على غبار نافذةٍ مهدّمة، كأنها تمسح على وجه ابنٍ لم يعد. طفلٌ يبحث بين الأنقاض عن لعبته القديمة، ربما لأنه يريد أن يقنع نفسه أن الطفولة ما زالت ممكنة ولو من شظية.

أفكّر في هذا الصبر الذي لا تفسير له إلا أنه نسيجٌ من الإيمان والكرامة، لا يتعلّمه المرء في مدرسة، بل يُورّث كما يُورّث الاسم والتراب. هناك في تلك الأزقة الضيقة، يضع الناس على أكتافهم خساراتٍ أثقل من العمر، ومع ذلك يمشون برؤوسٍ مرفوعة، وكأنهم يعرفون أن الانكسار لا يليق بهم. لقد تعلّم الفلسطيني أن يحيا في قلب العاصفة، وأن يصنع من الألم جسراً يعبر عليه نحو الغد.

رحم الله الشهداء الذين بدمائهم أوقفوا دوران القتل ولو إلى حين، وجعلوا لهذه الهدنة معنى يتجاوز السياسة، معنى يُشبه استراحة الروح من صخب الفقد. أولئك الذين رحلوا لم يذهبوا عبثاً، فها هم اليوم يفتحون الطريق للعائدين إلى بقايا بيوتهم، يرافقونهم بنسيمٍ خفيف يمرّ بين الركام، يذكّرهم أن الأرض تعرف أبناءها حتى وإن تغيّر وجهها.

وها هو الشعب الجبّار يبرهن من جديد أن الحياة ليست نقيض الموت، بل امتداده في شكلٍ آخر. أن يُعيد المرء بناء بيتٍ سقط، أو يزرع زهرة في فناءٍ مهدوم، أو يرفع علمًا فوق جدارٍ مائل، كلّها أفعال مقاومة بقدر ما هي أفعال حبّ. فليس أعظم من أن يصرّ المرء على أن يعيش رغم كل ما يُفقده الحياة معناها.

أمام مشاهد العائدين، أشعر أن العالم كلّه مدعوٌّ ليتعلّم من هذا الشعب درسه الكبير؛ أن الكرامة لا تُقصف، والأرض، مهما تهدّمت، تظل تلد أبناءها من تحت الركام. في وجوههم المضيئة برماد الحريق أرى ما هو أعمق من الانتصار العسكري وأصدق من الشعارات السياسية؛ أرى معنى الإنسان حين يتمسّك بحلمه الأخير، أن يكون حيّاً، فقط حيّاً، فوق أرضه التي تشبهه. 

وما بين رائحة الرماد وصوت المؤذّن في المساء، تنهض غزة كما تنهض القصيدة بعد آخر بيتٍ موجع. لا تطلب شفقة العالم ولا تصدر بيانًا للعزاء، بل تكتفي بأن تفتح عينيها على نهارٍ جديد، كأنها تقول للسماء: “ما زلتُ هنا”. هناك، حيث ينفض الناس الغبار عن أرواحهم قبل ثيابهم، تتجلّى البطولة في أبسط أشكالها: في امرأة تشعل موقدًا من حجارةٍ مهدّمة، في طفلٍ يضحك من قلب الفراغ، في رجلٍ يزرع نبتة صغيرة بجوار قبرٍ حديث. تلك ليست تفاصيل عادية، بل إعلان حياةٍ يتجاوز اللغة نفسها، كأن غزة تكتب بفعلها ما لا تستطيع البشرية أن تعبّر عنه بالكلمات.

مساحة إعلانية