رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
الشيخ عبدالقادر الجيلاني الذي قال عنه ابن تيمية رحمه الله أنه من أعظم مشايخ زمانه أمراً بالتزام الشرع، والأمر والنهي، وتقديمه على الذوق والقدر، ومن أعظم المشايخ أمراً بترك الهوى والإرادة النفسية، لعب دوراً مهماً هو وشيخه الإمام أبو حامد الغزالي رحمهما الله، في تهيئة جيل كامل سيكون على يديه تحويل مسار الأمة من مسار الذلة والهزيمة، إلى مسار النصر والعزة.. وبما أن الجميع مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فما الفكرة إذن من تضييع الأوقات والجهود سدى على خلافات مذهبية أو فكرية، وهناك أراض إسلامية محتلة، وعلى رأسها الأقصى المبارك، يعيث فيها الأعداء فساداً؟ هكذا كان الهم عند الغزالي والجيلاني ومن بعدهما الكثير من المصلحين والمجددين..
* واصل الشيخ الجيلاني السير على خطى شيخه الإمام الغزالي إذن لتوحيد الجهود وضبط البوصلة الإسلامية لتتجه نحو الأقصى، حيث استمر في انشاء وتعزيز مدارس تعلم الدين تحت شعار ( لكل مذهبه الفقهي والفكري، والهدف الأسمى هو تحرير القدس من الصليبيين ) حتى إذا ما انتهى المسلمون من تحقيق الهدف الأسمى، واستقرت الأمور، يمكن فتح المجال حينها لمناقشات فكرية وفقهية وغيرها، إن كان الهدف منها الوصول إلى مشتركات وتفاهمات. أما وأراضي المسلمين مغتصبة، فالانشغال عن تحريرها، لاشك هو منكر عظيم لابد من وضع حد له وتغييره بكل الوسائل الممكنة.
عبر تلك العقلية أو النهج، نشأ جيل كامل تربى على تلك المفاهيم في مدارس الغزالي والجيلاني، بعد أن انتشرت في حواضر المسلمين الرئيسية مثل بغداد ودمشق والقاهرة، حتى كان أغلب جند ووزراء ومستشاري الملك العادل نور الدين زنكي من خريجي تلك المدارس، حتى بدا أن الجيل يقترب إلى الجاهزية المطلوبة لتحقيق الأهداف الكبرى للأمة، لكنه يحتاج إلى قائد تربى على النهج نفسه يكمل بهم المسير، فكان هو القائد صلاح الدين الأيوبي، الذي تربى على يد القائد الرباني نور الدين زنكي، فكان النصر وتحرير الأرض بفضل من الله.
العدو القديم المتجدد
* تدور الأيام ويتفرق المسلمون من جديد، وتضيع نفس الأرض، وتغير العدو هذه المرة. فبعد بعد أن كانت تعيش البؤس والظلم تحت حكم الصليبيين الضالين، تضيع الأمانة بعد سبعة قرون بفعل فاعلين، ومؤامرات متآمرين من غرب وشرق، وتراخ وتخاذل وتهاون من أهل الديار من المسلمين، ليظهر عدو قديم متجدد، اليهود الصهاينة، يكملوا مسير الضالين..
تبدأ فوراً محاولات جهادية مقاومة للعدو اليهودي المتصهين، لكن لم تكن بالمستوى المؤهل لتحرير الأرض، فقد كانت بين مد وجزر، فيما العدو يشتد عدداً وعدة. يأكل من الأرض ما يستطيع بين الحين والحين، حتى تعملق وسيطر وتجبّر.. فكان لزاماً العودة مجدداً لإحياء المفهوم القديم الذي نشره الإمام الغزالي ومن بعده الإمام الجيلاني، والذي على نهجهم سار مجددون كُثُر ومنهم الإمام البنّا، ثم بعدهم يتولى الأمر الشيخ أحمد ياسين، رحمهم الله جميعاً، والذي تتلمذ على منهج الإخوان المسلمين الذي أسسه الإمام حسن البنا، وكلهم طلاب مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم.
* لعب الإخوان دوراً في الحفاظ على ما تبقى من فلسطين، ومنه قطاع غزة. لكن تكرار محنتهم في مصر عام 1954 ساهم في إضعاف الوجود المصري العسكري في غزة ليحتلها اليهود الصهاينة، ما جعل فكرة المقاومة المسلحة تنضج من جديد في غزة في سبتمبر 1967، وكان من أبرز المنادين بفكرة التجمع وتأسيس حركة مناهضة مسلحة للاحتلال، هو الشيخ أحمد ياسين رحمه الله، بعد أن كان مفهوم مواجهة العدو المتغطرس وتحرير الأرض لا يمكن أن تتم إلا بالقوة، واضحة له وضوح الشمس في رابعة النهار.
كان الشيخ ياسين رحمه الله يدرك أن أمر المقاومة المسلحة لعدو كافر متجبر متغطرس، تتطلب تربية إيمانية جهادية وصناعة رجال مؤمنين صادقين، كما كانت المدارس الغزالية والجيلانية ومدارس علماء ربانيين مجاهدين من بعدهما. هذا المفهوم الواضح عند الشيخ ياسين، الذي كان مصاباً بالشلل الرباعي، هو الذي صنع فكرة مقاومة العدو بقوة الساعد والسلاح، بعد التوكل على الله واتخاذ ما يلزم من أسباب القوة، والعمل على تمهيد المسار لتحرير الأرض، حيث اهتم الإخوان في غزة بقيادة الشيخ أحمد ياسين بالبناء التربوي، وفي الوقت نفسه بالبناء الجهادي المادي والمعنوي، بانتظار اللحظة المناسبة التي كانت يوم التاسع من ديسمبر 1987 حين وقعت حادثة دهس متعمدة لأربعة عمال فلسطينيين، فكانت شرارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، والتي أدت إلى أن تشهد الأراضي الفلسطينية غلياناً مشهوداً، ثم يبلغ التوتر حداً أنذر بانفجار أو وقوع حدث ما سيكون له تأثيرٌ بعيد المدى.. فكان ذلكم الحدث هو ولادة حماس، الذي ستلعب دور صلاح الدين الأيوبي بإذن الله.
حرب غزة هي البداية
لم يمض عامان ونصف العام حتى شكلت حماس جناحها العسكري ليحل محل كتائب « المجاهدون الفلسطينيون» وتم تسمية الكتائب الجديدة تحت مسمى كتائب عز الدين القسام، تيمناً وتقديراً للمجاهد السوري الأصل، عز الدين القسام الذي بذر البذور الأولى لفكرة الجهاد المسلح ضد المحتل، وكان من أشعل فتيل الثورة الفلسطينية الأولى ضد المحتلين عام 1935. الجيل المجاهد في غزة الذي نشأ خلال العقود الثلاثة الماضية على يد الشيخ أحمد ياسين، قضى الآلاف منهم شهداء في مقاومة العدو اليهودي المتصهين، لكن ما زالت هناك آلاف مؤلفة من ذلك الجيل، الذي تربى على حب الجهاد والاستشهاد ينتظر دوره، وآلاف مؤلفة أخرى تنتظر دخول تلك المدارس الإيمانية.. ومع ذلك، فإن تحرير الأقصى وكل فلسطين، بحاجة لآلاف أخرى من أقطار مسلمة تتربى في تلك المدارس وعلى ذلك النهج، تكون جيشاً مؤمناً ربانياً ينتظر قائدا ربانيا على غرار صلاح الدين، أو سيف الدين قطز أو محمد الفاتح وأمثالهم، يقودون هذا الجيش لتحرير الأرض التي بارك الله حولها.
استسلام حماس
ضمن سياق الحديث عن غزة وأحداثها، لابد من الإشارة إلى طرفة من طرائف المطبعين المتخاذلين، طرحهم فكرة استسلام حماس والتخلي عن أسلحتها، كأبرز شروط عودة الهدوء إلى القطاع ووقف العدوان، لأجل العيش في سلام وإخاء ونماء، والتحول إلى مقاومة سلمية كدويلة أوسلو العباسية، بدلاً من مقاومة مسلحة لا تنفع بل تضر، أو هكذا الزعم وهكذا الدعاية الإعلامية المضادة. لكن لم يدر بخلد كل أولئك أن هذا الجيل لا يرى ما يرون، ولا يفهم ما يفهمون. ولعل هذا يكشف لك سر التكاتف الصهيوصليبي مع الهندوسي مع بعض العربي المتخاذل ضد غزة، أو حماس تحديداً، باعتبارها آخر حركة مقاومة سنيّة في العالم الإسلامي، وشعلة جهادية نشطة من الممكن أن تكون هادية لكل الأمة النائمة أو المنوّمة، لتزيد من مشاعلها الجهادية، وهذا بالتالي دفع كل أولئك الذئاب اللئام للتكاتف من أجل اطفاء هذه الشعلة وبكل الطرق والوسائل، من قبل أن تنير العالم المسلم المظلم..
* خلاصة الحديث، أن المفهوم واضح، والمنهج أوضح، والمدارس الربانية اشتغلت فعلياً في غزة طوال ثلاثة عقود مضت، والمطلوب المزيد منها حول غزة فالأبعد ثم الأبعد، فقد حان أوان مقاومة الظلم والظلام اليهودي المتصهين وكل من يقف في صفه أو يدور في فلكه، بكل الوسائل الممكنة، وقوة السلاح بالطبع على رأس تلك الوسائل.
إنّ ما جرى في غزة منذ السابع من أكتوبر الفائت، نعتقد أنها كانت البداية الفعلية لتجسيد دروس التربية الإيمانية الجهادية ومقاومة الظلم على أرض الواقع، وإنه مهما فجر وتجبّر هذا العدو ومن معه، فإن فجورهم وتجبرهم الآن أشبه بالتحركات الأخيرة اليائسة للغريق. نعم إن هذا العدو يغرق، وسيغرق كثيرون معه بإذن الله، وإن بدا للعيان أنه منتصر متفوق، فالعبرة دوماً بالخواتيم. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
تأهيل ذوي الإعاقة مسؤولية مجتمع
لم يعد الحديث عن تأهيل ذوي الإعاقة مجرد شأن إنساني أو اجتماعي بحت، بل أصبح قضية تنموية شاملة... اقرأ المزيد
207
| 24 أكتوبر 2025
منْ ملأ ليله بالمزاح فلا ينتظر الصّباح
النّهضة هي مرحلة تحوّل فكري وثقافي كبير وتمتاز بالتّجدّد وتظهر دائما من خلال المشاريع الجديدة العملاقة المعتمدة على... اقرأ المزيد
693
| 24 أكتوبر 2025
لا تنتظر الآخرين لتحقيق النجاح
في حياتنا اليومية، نجد أنفسنا غالبا ما نعتمد على الآخرين لتحقيق النجاح والسعادة. نعتمد على أصدقائنا وعائلتنا وزملائنا... اقرأ المزيد
120
| 24 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
د. عـبــدالله العـمـادي
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
5166
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3702
| 21 أكتوبر 2025