رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. جاسم الجزاع

* باحث وأكاديمي كويتي
[email protected]

مساحة إعلانية

مقالات

234

د. جاسم الجزاع

استدعاء إرث العدالة في زمن المؤسسات الحديثة

01 أكتوبر 2025 , 02:50ص

في رحاب معهد الدراسات الجنائية التابع للنيابة العامة في دولة قطر، خضتُ تجربة جميلة وجديرة بالتوثيق، إذ قدّمت، بدعوة كريمة من النيابة العامة القطرية ممثَّلةً بمعهد الدراسات الجنائية، ندوةً حول موضوع «العدالة»، وبوجه خاص «العدالة الجنائية»، بوصفها قيمة مؤسسية تتجاوز كونها مجرد نصوص قانونية إلى أن تكون سلوكًا وثقافة متجذرة في بيئات العمل، فانطلقتُ في حديثي من قناعة راسخة بأن المؤسسات ذات الطبيعة الخاصة مثل الأجهزة القضائية والنيابية والأمنية، حين تضع منظومة البناء الثقافي في قلب سياساتها التدريبية، فإنها تُنشئ جيلاً من المنتسبين إليها من ذوي الوعي المرتفع، وقادرين على التطور الذاتي، ومؤهلين للانخراط في صناعة مستقبل أكثر عدالة ومسؤولية.

وأوضحتُ للحضور النخبوي من وكلاء النيابة العامة، أن بناء المعرفة داخل المؤسسات لم يعد اليوم شأنًا نظريًا أو من طرف واحد، بل هو عملية حوارية قائمة على النقاشات المباشرة مع النخب والخبراء والممارسين، وهذا التحول من نمط “الحديث من طرف واحد للجمهور” إلى “نمط الحوار المفتوح والمساءلة المتبادلة” يعكس روح العصر في تعامله مع الطرح العلمي، حيث تصبح الأسئلة العميقة والمناقشات النقدية أداةً لصياغة سياسات ومنهجيات أكثر واقعية ورسوخًا في عقول المتدربين، وتمريناً أكثر تأثيرًا واستدامة، ومن هنا شددتُ على أن الوعي المؤسسي لا يُبنى بالمحاضرات الأحادية بقدر ما يُبنى بفتح ساحات التفاعل والتمرينات الذهنية التي تربط بين النص والواقع.

وأكدتُ بلهجة أشد وضوحًا أن القضاء العادل لا يمكن أن ينمو إلا في ظل سياسة عادلة، فالقانون مهما بلغ من الدقة يظل إطارًا فارغًا ما لم يسنده نظام حكم يضع العدالة غايةً لا وسيلة، وهنا استحضرتُ تجربة الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز بوصفها علامة فارقة في التاريخ الإسلامي، إذ لم يكتفِ برفع المظالم عن الرعية وإحكام الرقابة على ولاته، بل كان سباقًا إلى تأسيس منظومة متكاملة للإنصاف العملي عبر إرساء محكمة المظالم، تلك المحكمة التي شكّلت في جوهرها أول إطار مؤسسي لقوانين حماية العدالة الجنائية بمعناها الواسع في عصرنا الحديث، حيث فُتح الباب لمساءلة كبار المسؤولين، وتقريب العدالة من عامة الناس، وتحويل الإنصاف من شعار وعظي إلى آلية يومية فاعلة، لقد قدّم عمر بن عبدالعزيز بهذا السبق نموذجًا خالدًا في التاريخ لكيفية انتقال القيم إلى مؤسسات، والنصوص إلى سياسات، والسياسات إلى إجراءات تحمي حقوق الناس وتصونهم من الاستبداد والفساد. وتوقفتُ عند تطور مفهوم «الحِسبة» بوصفها آلية رقابة مجتمعية وأداة لصون الأخلاق والأسواق، وكيف أصبحت مؤسسة قائمة بذاتها ذات صلاحيات إدارية وقضائية، بل وحتى في مملكة القدس الصليبية، التي نشأت في قلب المشرق بعد الحملات الصليبية، قامت باستنساخ فكرة الحسبة في هيكلها الإداري لتنظيم الأسواق وضبط المعاملات، وهو ما يعكس عالمية الفكرة وأهميتها في تحقيق التوازن بين القانون والمجتمع.

فعلاً، إن ما لمسته من دقة التنظيم وتنوع الكوادر والتفاعل العميق في هذا الإطار المؤسسي في قطر، عزز يقيني بأن العدالة ليست مجرد شعار يُرفع في أروقة المحاكم، بل هي روح يجب أن تتخلّل تفاصيل حياتنا الوظيفية والاجتماعية والسياسية على السواء، ومن هنا فإن تبنّي هذا النموذج القائم على الثقافة المؤسسية والمعرفة القانونية والأخلاق العدلية يمثّل ركيزة أساسية لبناء جهاز عصري ومجتمع أكثر نزاهة وإنصافاً وقدرة على خدمة الصالح العام بكفاءة واقتدار.

مساحة إعلانية